من عراق الدكتاتور إلى عراق الدكتاتوريين!

نشر في 19-05-2010
آخر تحديث 19-05-2010 | 00:00
 د. شاكر النابلسي العالم مهتم بالعراق، وينتظر تطبيق نتائج الانتخابات الأخيرة على الأرض، ولعل اهتمام العالم به على هذا النحو، كان نتيجة للحملة عليه 2003، وموقف الدول الأوروبية منها، ثم لمكانة العراق الاقتصادية كثاني أكبر دول العالم امتلاكاً للاحتياطيات البترولية، إضافة إلى أنه دولة واعدة زراعياً، ويمكن أن تكون سلة خبز وسلة فاكهة العالم العربي، وربما العالم الثالث، وزيادة على ذلك فإن للعراق تاريخاً وحضارة غنيين، كما أن العراق يحتضن أكثر من 80% من تاريخ الثقافة العربية منذ العهد الأموي وانتهاءً بالعصر المملوكي.

لماذا كل هذا القلق على العراق؟

كذلك، فإن العالم العربي مهتم أشد الاهتمام بما يجري الآن في العراق، وهو قلق أشد القلق على حاضره ومستقبله، وذلك للأسباب السابقة، إضافة إلى أن العراق بالنسبة للعالم العربي، يمكن أن يلعب دوراً مهماً في تقدم الحداثة السياسية، وإرساء أُسس الحرية والديمقراطية العربية المبتغاة. فهو أكثر الدول العربية تأهلاً واستعداداً للديمقراطية، نتيجة لمكوناته الشعبية، ونتيجة لتعدد الأديان والطوائف والقوميات فيه، والتي لن تأتلف وتتآلف إلا تحت مظلة الديمقراطية، كذلك فإن وجود الأغلبية من السكان من الشيعة (يقال إن 60% من سكان العراق شيعة) سيكون عاملاً آخر على تأهله للديمقراطية، بسبب أن الشيعة على مدار التاريخ، كانوا أكثر حراكاً، وتفاعلاً، واهتماماً سياسياً من السنة الذين كانوا «ملكيين محافظين»، وسياسيين تقليديين، يكرهون ويرفضون الخروج على الحاكم، تمثلاً بما يُنسب إلى أحد النصوص المقدسة التي تقول «أطع حاكمك، ولو سرق مالك، وجلد ظهرك».

خطورة التلكؤ السياسي

ولكن العراق الجديد الآن أشبع غرور أعدائه بهذا التلكؤ حيال التطبيق الديمقراطي، وتسليم الحكم من الخاسرين للرابحين، في الانتخابات الأخيرة.

والتلكؤ السياسي في العراق الجديد الآن، في تطبيق الديمقراطية، والسير بها إلى الأمام، ومحاولة الالتفاف حول نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، والاستئثار بالسلطة على طريقة الدكتاتوريين في العالم العربي والعالم الثالث، قد أسعد الدكتاتوريات العربية وأعداء الديمقراطية والحرية سعادة كبيرة، والذين أخذوا يستشهدون دائماً بالوضع العراقي المتردي الحالي، للتدليل على فشل الديمقراطية ودعاتها في تطبيق ما يحلمون به في العراق.

والتلكؤ السياسي في العراق الجديد الآن في تطبيق الديمقراطية قد أسعد رجال الدين المتشددين كثيراً، والذين حاربوا وناصبوا العداء للديمقراطية العراقية منذ اللحظة الأولى، وراحوا يرسلون قوافل الإرهاب إلى العراق باسم «الجهاد» الإسلامي لإحباط ثورته الشاملة، والتي تجد الآن في طريقها الكثير من العقبات والعثرات. وهي حال ليست بجديدة على بلد كالعراق، فعلى مدار التاريخ السياسي البشري شهد العالم مثل هذه العثرات ومثل هذه العقبات للتطبيق الديمقراطي، ولكن أخذ العقلاء والمخلصون، في تذليل هذه العقبات وتلك العثرات، بالصبر والإخلاص، والدرس العميق للتاريخ وأحداثه، وتعرجاته، وتعقيداته، إلى أن تحققت الأهداف المرجوة.

من الدكتاتور؟

إن المشهد السياسي العراقي الآن مشهد حزين ومخجل بكل صراحة ووضوح، والعالم ومعه العالم العربي، يشاهدان، ويسخران، ويضحكان من تلاعب السياسيين العراقيين على الدستور، وعلى الشرعية، ويتهم بعضهم العراق بأنه أصبح «نقابة الدكتاتوريين» كما سبق أن اتهم «تنداي بيتي» وزير مالية زيمبابوي الاتحاد الإفريقي بالتهمة نفسها. وهو مشهد قد أثلج صدر أعداء العراق أياً كان هؤلاء الأعداء من العرب والعجم، وقد ساهم جزء من الإعلام العربي بعودة الدكتاتورية للعراق، ليست ممثلة بدكتاتور وحيد، ولكنها متمثلة بعدة دكتاتوريين، فليس المهم أن تُعلن نفسك حاكماً مطلقاً لا ترضخ لدستور ولا لنتائج انتخابات تشريعية، لكن يكفي أن تضرب بالدستور وبنتائج هذه الانتخابات عرض الحائط، وتطالب بإعادة فرز الأصوات، ساعةً يدوياً، وساعةً مذهبياً، وساعةً طائفياً، وأن تضيّع الوقت على العراق وشعبه، في إعادة البناء السريعة، وأن تتلكأ في تسليم السلطة، اعترافاً بمبدأ «تداول السلطة»، وأن تسعى إلى التمسّك بالكرسي، وتصبح عليه خالداً مخلداً، إلى أن تحين الساعة.

وهذا ما يجري في العراق الآن، حيث لا دكتاتور وحيدا يحكمه، ولكن يحكمه ائتلاف كامل، يهتف بحياة الزعيم، وينافح عن حقه في البقاء في السلطة، ويُقال إنه ائتلف مع كتلة أخرى ليكوّنا جبهة دينية طائفية واحدة بمباركة إيران، وبدعمها المالي، والسياسي، والعسكري، واللوجستي، والتي أصبحت المستفيدة الوحيدة تقريباً من العراق الجديد، كما سبق أن قلنا. والمشهد الغريب والمستغرب أن معظم السياسيين الآخرين في العراق يقفون حيال هذا كله صامتين، وربما كانوا مباركين لهذا التوجه والسلوك السياسي الدكتاتوري. فنراهم، ونسمعهم، ونقرأ لهم، وكأنهم يطلبون مكرمةً أو عطيّةً ثمينة من صاحب السلطان، لكي يتنازل عن سلطانه، الذي انتهت ولايته. وهم يرجون، ويتوسلون، ويتلطفون. وكان عليهم من أجل العراق الجديد، ومن أجل الشعب العراقي، أن يكونوا أقوياء وأشداء على الدكتاتورية، وعدم تداول السلطة، ولا يتهاونوا مع اللاعبين بمصير الشعب العراقي على هذا النحو الذي يجري الآن.

حنظل الديمقراطية المُرّ

نحن نعلم، وقد قرأنا هذا في التاريخ، ومن خلال أمثلة كثيرة، أن تسليم السلطة للآخر، دونه الأرواح والدماء الغزيرة، وأن السلطة أعزُّ من المال والولَد، وأن التحوّل من الدكتاتورية إلى الديمقراطية أمرٌ ليس سهلاً، ولا يسيراً، ولولا الدساتير، والقوانين، ووعي الشعوب وإرادتها الصلبة، لما تنازل سلطان عن كرسيه، وأن الديمقراطية في بلد كان حكمه دكتاتورياً، لها طعم الحنظل المُرّ، لأنها دواء وليست غذاء. فهي كالدواء المُرِّ لمرض خطير، وليست شراباً طيباً، والتحوّل من الدكتاتورية إلى الديمقراطية، يحتاج أشد ما يحتاج إلى نُخب وكوادر سياسية شفافة، ونزيهة، وأمينة، وصادقة. وتصل بشفافيتها، ونزاهتها، وأمانتها، وصدقها إلى مرتبة الرُسل، والأنبياء الصالحين. ولنا من نيلسون مانديلا، في جنوب إفريقيا المثال الحي، والواضح، والحديث.

* كاتب أردني

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

__________________

back to top