• ظل الشعر يوصف بحق بأنه ديوان العرب إلى حين العقد الأخير من القرن العشرين، إذ انبرى الناقد والأكاديمي الدكتور جابر عصفور لنعي النعت الشهير السالف المذكور، مشيرا إلى أن الرواية أصبحت- الآن- هي ديوان العرب، إثر ما لاحظه من تراجع حضور الشعر في حياتنا الثقافية، واستحواذ الرواية على المشهد الثقافي كماً وكيفاً، واحتفاءً نقديا.

Ad

وقد لا يختلف المرء مع الدكتور عصفور فيما ذهب إليه طوال العقدين الآخيرين، لكن الملاحظ حاليا، أن مصنفاً إبداعياً جديداً أصبح هو ديوان العرب الجديد، يتربع فيه دون منازع ولا منافس البتة! وأعني به: المسلسلات والكليبات التلفزية، وغيرهما من أنواع الثقافة البصرية المتبدية فيما تبثه الفضائيات العربية، من برامج مسابقات و»توك شو» تهذر في كل شيء كما هو شأن الصحافة الفضائحية الصفراء، ولا فخر!

من هنا يمكن لنا الزعم بأن المسلسلات والكليبات التلفزية باتت ديوان العرب الجديد دون منازع! لاسيما إذا علمت أن فضاء الاتصال العربي يحتضن حالياً أزيد من 500 قناة فضائية عربية تروج جميعها لديوان العرب التلفزيوني بأشكاله كافة! ويسوّقه وفق منطق «الجمهور عايز كده»! وما ينطوي عليه من غث كثير وسخي، وسمين نافع نادر وشحيح! والملاحظ أن ديوان العرب الجديد يكون شديد الحضور في شهر رمضان إلى حد التخمة المفضية إلى البشمة! والعياذ بالله!

• ورب سائل: لمَ هذا الاحتفاء الدرامي والبرامجي الشديدين خلال شهر رمضان المبارك؟! فيقال لك: إن نسبة المشاهدة التلفزيونية فيه لا تضاهيها نسبة في شهور السنة كافة.

بحكم طقوس «سلي صيامك» الواردة من مصر المحروسة، وصدرتها إلى جل الأقطار العربية، حيث تتحلق الأسرة بعد الإفطار، ومن ثم بعد صلاة التروايح، حول الشاشة الصغيرة لمتابعة ديوان العرب العولمي «الديجتال»، باحتفاء شديد يحرض المعلنون على انتهاز هذه الفرصة الذهبية للترويج لبضاعتهم «بعد الفاصل» المتواتر إلى حد يشعر المشاهد بأن المسلسل عبارة عن إعلانات تجارية، تتخللها مشاهد درامية تلعلع كما صوت «الدلال» المعلن عن السلعة التجارية والمروّج لها! والأنكى من ذلك هو: أن بعض منتجي مسلسلات رمضان وغيرها، لا يجدون غضاضة في أن يطل بطل المسلسل وهو يمجّ سيجارته المفضلة في كل مكان وحين، للإعلان عن الماركة مولاة الإعلان وممولته بسخاء ذي أرقام مادية فلكية تقول للمسلسل- بجلالة قدرة وشهرة نجوم-: قم وفز لأجلس مطرحك وأتربع مكانك! أو أن تجد البطلة تكرع المياه المعدنية أو الغازية وسط مشهد درامي تليق به «قلة» الماء «القناوية» بامتياز!

وعلى ذلك فقس، أو فشيخ! الشاهد أن المسلسل يتحول- بقدرة المعلن وسطوة الداعم- الى صفحة إعلانات تكون الدراما على هامشها!

إنها بركات العولمة التي تبيح المحظورات الفجة، وتهمش الإبداع الدرامي التلفزيوني بجرة شيك كامل الأوصاف والأصفار، وطافح بالسخاء المسيّل للعاب صاحب القناة الفضائية! وأحسبني لست بحاجة إلى الإشارة إلى أن رافض الإعلانات سيجد نفسه ممدداً على بساط الفقر، معزيا النفس بإعجاب النقاد الذي لا يسمن ولا يغني من جوع!

لاسيما أن العادة في أقطارنا قد جرت على أن ما يعجب لا يؤدي بالضرورة إلى إعجاب الجماهير الغفيرة من المشاهدين، والعكس صحيح بالضرورة أيضا، ولا تسأل هنا من المسؤول لأن كل طرف سيضع اللوم على كاهل الطرف الآخر!