أين هم الآن؟
تشكل الصدمات نفسياً في حياة الأطفال بشكل عام والمراهقين بشكل خاص منعطفاً حرجاً في تشكيل شخصياتهم ومهاراتهم في التعامل مع الآخر، ومن دون المعالجة المهنية والمنتظمة، فإن تلك الصدمات تخلق ندوباً يصعب، إن لم يستحل، علاجها متأخراً.
من أسوأ الجرائم السياسية التكسب السياسي من المأساة الإنسانية، وأقبحها التكسب على حساب الأطفال، فرغم كثرة حالات الاعتداءات الجنسية على الأطفال في المدارس والمنازل، فإنها لم تأخذ حقها الإعلامي إلا لأسباب سياسية واضحة الغرض منها إحراج وزيرة التربية ووزارة ناصر المحمد. الأدهى والأمرّ أن تلك القضايا تطوى بعد تحديد المسؤولية السياسية والملاحقة القانونية للمجرمين، وينسى السياسي والتربوي والقانوني الضحية تماماً، وكأن كل ما تحتاجه هو ملاحقة المعتدي.في البلدان المتحضرة يأتي المختص النفسي والاجتماعي إلى مسرح الجريمة ربما قبل الشرطة، خصوصاً في الحالات التي تخص الأطفال والمراهقين، ويستمر العلاج والمتابعة بعد الجريمة لسنوات حتى يتأكد المختص من سلامة وصحة الضحية النفسية والعقلية إثر صدمة الجريمة وتوابعها، وفي المجتمعات الصغيرة والمحافظة نسبيا تمتد المساعدة والاستشارة النفسية للأسرة والمحيطين بالضحية لمساعدتهم في التعامل مع الأحداث على المستوى الشخصي ولتدريبهم على التعامل مع الضحية ومساعدتها في التعافي والتأقلم.
وهذه الخدمة لا تأتي من باب الترف كما يتخيل الكثيرون، إنما تأتي من منطلقين رئيسين: الأول نفسي والآخر اجتماعي. نفسياً تشكل الصدمات في حياة الأطفال بشكل عام والمراهقين بشكل خاص منعطفاً حرجاً في تشكيل شخصياتهم ومهاراتهم في التعامل مع الآخر. ومن دون المعالجة المهنية والمنتظمة، فإن تلك الصدمات تخلق ندوباً يصعب، إن لم يستحل، علاجها متأخراً. وقلما تستطيع الأسرة معالجة مثل هذه الحالات بقدراتها المتواضعة، خصوصاً في مجتمعات متخلفة ومنغلقة كمجتمعاتنا، لذا يصبح لزاماً على الدولة توفير هذه الخدمة وإلزام الأسرة بها من باب حماية حق الطفل في حياة سليمة. المنطلق الاجتماعي يرتكز على الأمن ومنع مثل هذه الجرائم من التكرار، فقد أثبتت الدراسات أن الكثير من المعتدين على الأطفال هم في الأساس ضحايا للتحرش أو الاعتداء الجنسي في طفولتهم. لذا، فإن إغفال المعالجة النفسية للضحايا في طفولتهم يكاد يضمن تحولهم إلى مجرمين في كبرهم، ولعل أوضح مثال محلي كان في تصريحات "وحش حولي" الذي اعترف أنه كان ضحية اعتداء متكرر في طفولته، وأن جرائمه كانت من باب الانتقام لنفسه، والله أعلم كم "وحشا" آخر سينتج من جراء تخاذلنا في تقديم الخدمة المناسبة لضحاياه.المرعب أكثر هو طبيعة العلاج الذي يقدم للمجرم أثناء سجنه، فالأغلبية يخرجون بلحية وحفظ القرآن دون أي تغيير جذري في عقلياتهم ودوافعهم المريضة، مما يجعل جريمتهم اللاحقة شبه مؤكدة.ولهذا أسأل النواب الذين تسيدوا صفحات الصحف في استنكار جرائم الاعتداء على طلبة المدارس خلال العام المنصرم: كم من أسماء الضحايا تعرفون؟ ماذا تعرفون عنهم؟ وماذا قدمتم لهم؟السؤال الأهم لوزارات الدولة (التربية والصحة والداخلية) من منكم يتابع حالات الضحايا؟ وما الخدمات المقدمة إليهم وإلى أسرهم؟ وما مستوى هذه الخدمات- إن وجدت؟ وما مقاييس نجاحها؟... أسئلة كثيرة آمل بحياة لمن أنادي.