عندما عرض اللبناني الراحل منصور الرحباني مسرحيته «المتنبي» على أدارج بعلبك، لم يتنبه إلى أنه اختار أشعاراً لشاعر العرب الأول تتضمن معانٍ عنصرية متطرفة ضد السود. إذ يصفهم بالخصيان والآبقين تارة وبالأنجاس المناكيد والعضاريط الرعاديد تارة أخرى.

Ad

قلة من المثقفين انتبهت إلى أبيات المتنبي العنصرية على أدراج بعلبك. شاهد الجمهور مشهديّة المسرحية ولم يتأمل في جوهر شعرها.

المتنبي، مالئ الدنيا وشاغل الناس، الذي نتعلّم في المدرسة أنه شاعر الحكمة والفخر والمديح، لم نعرف عنه أنه شاعر عنصري بامتياز. اليوم، يقوم البعض بحملة ضد المتنبي، خصوصاً في السودان، ويطالب بحذف شعره ونصوصه من المناهج الدراسية، لأنها تغذّي روح التطرّف والتمييز والتفرقة والكره ضد أبناء العرق الأسود، ولأن أشعاره ودعواته تخالف المبادئ الحديثة المطالبة بالمساواة بين جميع أبناء الجنس البشري بغض النظر عن لونهم أو جنسهم.

وعلى رغم أن البعض يأخذ تمييز المتنبي وعنصريته في أشعاره على أنها صور كاريكاتورية ومثيرة للإعجاب، إلا أن التفكير لوهلة بهذه المعاني يؤكد أنها مثيرة للاشمئزاز، فتلك الأوصاف التي يوردها الشاعر بحق السود، خصوصاً كافور الإخشيدي، يمكن اعتبارها تمييزاً عنصرياً بحتاً. لا يقلل هذا الواقع من قيمة أحد أبرز شعراء العرب، إن لم يكن أهمهم على الإطلاق، ولا شك أن الكثير من الشعراء تورطوا في قضايا مثل العنصرية والفاشية والنازية أو حتى أنهم كانوا قتلة.

على أن شجاعة عنترة العبسي، ذلك الفارس العربي الأغر، وفصاحته وروعة شعره جعلته أحد أبرز شعراء التاريخ العربي، وأحد أصحاب المعلقات، الذي يفتخر بلونه حين قال:

لَئِن أَكُ أَسوَداً فَالمِسكُ لَوني

وَما لِسَوادِ جِلدي مِن دَواءِ

وَلَكِن تَبعُدُ الفَحشاءُ عَنّي

كَبُعدِ الأَرضِ عَن جَوِّ السَماءِ

كل هذه الشجاعة والفصاحة وعزة النفس لدى عنترة بن شداد، الفارس الأسود، لم تشفع للسود لدى المتنبي، بل أخرج الأخير كل فاشيته وعنصريته وصبها عليهم.

وتنطلق عنصرية المتنبي ضد السود من قوميته وتعصبه الأعمى للعرب، ربما من «سوبرمانيته» التي تجعله يلتقي مع نيتشه، فعندما رأى انحطاط العرب، ودخول عناصر غير عربية إلى الحكم، وتسلّم بعض العبيد والمماليك من أصحاب البشرة السوداء مقاليد الحكم، وتحول الكثير منهم إلى أمراء وقادة وولاة، صبّ جام سلاطة لسانه وقساوة شعره على السود والعبيد.

وفيما يعتبر البعض أن تعصب المتنبي وعنصريته، لم يكونا ضد أفريقيا كلها وإنما ضد كافور الإخشيدي فحسب، يبدو واضحاً أن المتنبي يهاجم العرق الأسود والسود في الكثير من أشعاره، ويدمغ العرق الأسود في رؤية لا تخلو من عنصرية، كقوله:

أنوكُ من عبد ومن عِرسه

من حكّم العبدَ على نفسه

وإنما يُظهِر تحكيمه

تحكّم الإفساد في حسّه

لا ينجز الميعاد في يومه

ولا يعي ما قال في أمسه

وإنما تحتالُ في جذبه

كأنك الملاّح في قَلسه

فلا ترجّي الخير عند امرئ

مرّت يد النخاس في رأسه

وإن عراك الشكَّ في نفسه

بحاله فانظر إلى جنسه

فقلّ ما يلؤم في ثوبه

إلا الذي يلؤم في غرسه

وإحدى أبرز الصور القاسية والمقيتة مما قاله المتنبي في كافور الإخشيدي:

أريك الرضا لو أخفت النفسُ خافيا

وما أنا عن نفسي ولا عنك راضيا

أمَينا وإخلافا وغدرا وخسّة

وجُبنا أشخصا لُحتَ لي أم مخازيا

تظن ابتساماتي رجاءً وغبطة

وما أنا إلا ضاحكُ من رجائيا

وتعجبني رجلاك في النعل إنني

رأيتكَ ذا نعلٍ وإن كنتَ حافيا

وإنك لا تدري ألونك أسودٌ

من الجهل أم قد صار أبيض صافيا

ويُذكِرني تخييط ُ كعبك شقّهُ

ومشيك في ثوب من الزيت عاريا

لئن كنتَ لا خيراً أفدتَ فإنني

أفدتُ بلحظي مشفريك الملاهيا

ومثلُك يؤتى من بلاد بعيدة

ليضحك ربات الحجال البواكيا

كذلك يبرر بعض المؤرخين تطرف المتنبي وعنصريته بموقع السود ووضعهم في أسفل طبقات المجتمع العربي والإسلامي، باعتبارهم عبيداً ومماليك يباعون ويشترون في أسواق النخاسة، وهذا الوضع جعل الرذائل الاجتماعية والأخلاقية كافة تلتصق بهم حقاً أو باطلاً.

وتفتح عنصرية المتنبي وتعصبه الباب أمام التساؤل عما إذا كان العرب يمارسون العنصرية، خصوصاً ضد السود؟ والإجابة نعم. ليس ضد السود، بل ضد معظم الأعراق والقوميات التي تعايشوا معها عبر تاريخهم حين استعبدوا بعض الأقوام وتفاخروا بامتلاك مئات العبيد، وقهروا الشعوب وجعلوها تحارب وتقاتل في قضايا ليست قضاياها.

والعرب عنصريون حتى في ما بينهم عندما يفضلون بعض الجنسيات العربية على غيرها من الجنسيات في كثير من أمور الحياة، من الزواج إلى الوجوه الإعلامية والنواحي الأخرى كافة. وحتى في تاريخنا الحديث ما زلنا نقوم غالباً بسلوكيات عنصرية ونبارك لمن يقوم بها. فقد سكت حكامنا عن بعضهم البعض حينما ارتكبوا جرائم إنسانية في حقوق شعوبهم أو الشعوب المجاورة. بل وسكتت غالبية الشعوب والمثقفين العرب عن الجرائم نفسها، بذريعة أن «الأمة في خطر» وألا {صوت يعلو فوق صوت المعركة».

اللافت أنه حينما تحاول أطراف دولية أن تنقذ الموقف لأسباب إنسانية، مخلصة أو مغرضة، فإن معظمنا كعرب، حكاماً ومحكومين، نتصايح بأن هذا «تدخل أجنبي في قضايانا»، و{انتهاك للسيادة الوطنية».

لكن يجب أن يتنبه هؤلاء الذين يبررون مثل هذه التصرفات والسلوكيات إلى أن مبادئ حقوق الإنسان واحدة لا تتجزأ، ونحن العرب طالما شكونا من ازدواجية المعايير لدى الغربيين عموماً والأميركيين خصوصاً، حينما يدافعون عن حقوق الإنسان في الحالات التي تهمهم ويصمتون عن انتهاك الحقوق نفسها في الحالات التي تهمنا نحن العرب. وها نحن نرتكب الإثم المقيت عينه.