احتراق أميركية على السادس!
أشد على أيدي الزملاء في «الجريدة» كي يتمسكوا بمنهج الاختزال لأنه هو الحد الفاصل بين الصحافة والتجميع، فكل من يعمل في حقل الصحافة يعرف أن بإمكان أي جريدة يومية تعبئة مئة صفحة من خلال المواد والصور الكثيرة التي تصبها وكالات الأنباء وإدارات العلاقات العامة في الوزارات.
أفضل شيء قدمته جريدة "الجريدة" للصحافة الخليجية هو اختزال الصفحات وانتخاب المعلومات، حيث عانت صحف الخليج طوال العقدين الماضيين بدعة الظهور على القارئ بستين صفحة- على الأقل- حتى أصبح القارئ الخليجي بحاجة إلى سلة يحمل فيها جريدته اليومية التي ازداد وزنها، وتراجعت كمية المعلومات المهمة في داخلها.فأنا اليوم إذا قرأت جريدة إماراتية أضطر "لتقشيرها"، بمعنى أنني أستبعد الملاحق الكثيرة المحشوة في جوفها، والتي تتوزع ما بين ملاحق رياضية، وفنية، وثقافية، واقتصادية، وإعلانية، وكل هذه الملاحق تكون يومية بالإضافة إلى ملحق أسبوعي متخصص في الدين أو العقارات أو السيارات، وبعد أن يضيع وقتي في التقشير أكتشف أنني مضطر للعودة إلى القشور بعد أن دفعني اللب الصغير إلى البحث عن شيء ما يمكنني قراءته ريثما أنتهي من قهوة الصباح. أما الصحافة الكويتية فهي تدفعك لـ"التنقيب" بحثا عن شيء تقرؤه بعد أن أصيبت بمتلازمة المحليات، فكل شيء هنا يعتبر خبرا صالحا للنشر، فعلى سبيل المثال يمكن أن تجد أن خبر احتراق سيارة أميركية الصنع على الدائري السادس يحتل مساحة بارزة في صفحة المحليات، كما أنها يمكن أن تنشر على أربع أو خمس صفحات كل همسة دارت في جلسة لمجلس الأمة أو المجلس البلدي مع 15 صورة على الأقل دون أن يكلف المحرر نفسه باختصار ما جاء في الجلسة في تقرير جيد مع صورة واحدة، أما أخبار الخدمات الإعلانية فتكاد تنافس الأخبار الصحفية دون أن تكلف الجرائد نفسها تنظيم هذه الفوضى الخلاقة من خلال إعداد صفحة أسبوعية لأخبار الشركات، هذا بخلاف أن الجرائد الكويتية تتميز بكثرة الأوراق المصقولة التي تتساقط من جوفها، والتي عادة ما تحتوي على عروض إعلانية لمطاعم الوجبات السريعة. أما الجريدة السعودية فهي تحولك إلى شرطي مرور رغما عن أنفك، حيث تضطر دائما لمعالجة الاختناقات المرورية بنفسك، وهذا أمر له علاقة بطبيعة جهاز التحرير المتضخم داخل الصحف الكبرى، فهي أشبه بالوزارات لكثرة ما تضم من نواب لرؤساء التحرير ومديري التحرير والمحررين والمراسلين في مختلف المناطق والقرى، بالإضافة إلى الجيش العرمرم من رسامي الكاريكاتير والكتّاب، وكل هؤلاء يبحثون عن أي سنتيمتر فارغ- لم يستحوذ عليه المعلنون- كي ينشروا مواد تحمل أسماءهم، لذلك عليك أن تعرف مسبقا الطريق الذي سوف تسير فيه خلال قراءتك للجريدة السعودية، فثمة أخبار كثيرة لا تهمك ولكنها قد تهم غيرك، ولعل الشيء الوحيد الذي بدأ يدفع الصحف السعودية دفعا لاختزال صفحاتها هو اضطرارها لطبع كميات كبيرة من النسخ من أجل تغطية مراكز التوزيع الكثيرة في بلد مترامي الأطراف، وهو أمر أصبح مكلفا جدا بسبب ارتفاع أسعار الورق، ما اضطرها اليوم إلى تقليص الصفحات ورفع أسعار الإعلانات.
لذلك أشد على أيدي الزملاء في "الجريدة" كي يتمسكوا بمنهج الاختزال لأنه هو الحد الفاصل بين الصحافة والتجميع، فكل من يعمل في حقل الصحافة يعرف أن بإمكان أي جريدة يومية تعبئة مئة صفحة من خلال المواد والصور الكثيرة التي تصبها وكالات الأنباء وإدارات العلاقات العامة في الوزارات بصورة يومية، إضافة إلى متابعات وتحقيقات المحررين والمراسلين، ولكن أي صحافة هذه التي تحول القارئ إلى محرر "ديسك" يفرز الأخبار ويقلبها ويعيد ترتيبها بحثا عن شيء يستحق القراءة؟!*كاتب سعودي