إذا كنت من هؤلاء الذين اعتمدوا على وسائل الإعلام المحلية الخليجية في متابعة الانتخابات الرئاسية الإيرانية التي جرت في 12 يونيو الجاري، فلا شك أنك مصدوم الآن، وتعتقد أن الانتخابات قد جرى تزويرها، وأن نجاد ما كان ليحقق هذا النجاح الساحق أبداً، والواقع أن تلك النتائج التي تحصلت عليها، والآراء التي تكونت لديك، والتوجهات التي ميزت مقاربتك لهذا الحدث السياسي المهم تكاد تكون طبيعية؛ لأن وسائل الإعلام تلك غطت الاستحقاق الانتخابي الإيراني كما أدارت النخب السياسية الخليجية العلاقات مع إيران... بالتمني وليس بالوقائع.

Ad

من تتبع التغطيات الإعلامية في وسائل الإعلام الخليجية يتذكر هذا التركيز الكبير على فعاليات الحدث الانتخابي، وتلك الصور الواسعة والعريضة للشابات والشبان في الأزياء والألوان الخضراء، معبرين عن تأييدهم الكبير لموسوي، وهذا الحراك الكبير الذي يصب بقوة وتدفق هائلين في اتجاه التغيير نحو «الأكثر حداثة وليبرالية»، وذلك الانزواء الواضح لرموز الحرس القديم ومقولاتهم وهوياتهم الانتخابية.

ليس هناك شك في أن الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة قد شهدت مخالفات واسعة وذات قدر من التأثير، ولا يستطيع أحد أن ينفي أن القوى الصلبة في النظام العقيدي الإيراني كانت تدعم نجاد بقوة، وأنها في سبيل ذلك ربما استخدمت أدوات مختلفة للتأثير في مجرى الانتخابات لمصلحته.

لقد وقف المرشد الأعلى بوضوح في صف نجاد، وحدد المقاييس التي يعتقد بضرورة وجودها في الشخص الذي يجب أن يتولى الرئاسة في الجمهورية الإسلامية، فلم تنطبق سوى عليه، وبدا الحرس الثوري مخلصاً وفياً للرجل الذي عمل ضابطاً به، والذي ينظر إليه على أنه أحد العناصر الصلبة في الحفاظ على مكتسبات الثورة واستمرارها وأحد أعمدة العقيدة الخمينية الراسخة، فيما تخضع قوات الأمن الداخلي لنفوذه المباشر، فضلاً عن الدعم الذي يتلقاه من ميليشيات «الباسيج».

الآن لا يجد الذين توقعوا سقوطاً مروعاً لنجاد الكثير للحديث عنه، باستثناء أن الأصوات التي حصدها كروبي أقل من عدد العناصر في ماكينته الانتخابية، أو أن ملايين الاستمارات منعت من الوصول إلى المراكز الانتخابية، أو أن الحبر تم استبداله بآخر فاسد، فصوت البعض أكثر من مرة.

والواقع أن الفارق الذي حققه نجاد من السعة بحيث تتضاءل تلك المآخذ إزاءه؛ فقد فاز الرجل بـ62.6 في المئة من الأصوات، مقابل 33.7 في المئة لمنافسه الأقرب مير حسين موسوي، بعدما حصد 24 مليون صوت، تفوق بأضعاف ما حصل عليه في ولايته الأولى في العام 2005، كما تفوق بكثير ما حصده خاتمي في ولايتيه السابقتين. لا يستطيع كثيرون كيل المديح للممارسة الديمقراطية الإيرانية خصوصاً في مسألة الانتخابات؛ إذ تخضع تلك الممارسة للكثير من المحاذير والقيود والسيطرة، بحيث تخرج عن مسارها الطبيعي، وتعود إلى كنف السلطة الدينية المستمدة صلاحياتها من السماء، لكن في الوقت نفسه، لا يملك أحد النيل من الديناميكية أو التقليل من الحيوية التي تمنحها تلك الممارسة للنظام الإسلامي في إيران.

على أي حال فقد بقي نجاد رئيساً لولاية ثانية، وتدخل المرشد الأعلى في خطبة يوم الجمعة الفائتة مؤيداً ومناصراً له بقوة، ومهدداً هؤلاء الذين سيثيرون الشغب ويتخطون الحدود، ورافضاً الحديث عن إعادة العملية الانتخابية، ومعتبراً أن التصويت الواسع الذي ناهز نسبة 85 في المئة يمثل تأييداً جماهيرياً واسعاً للنظام الإسلامي والديمقراطية الإسلامية والدولة الإيرانية. لقد استمرت وسائل الإعلام الخليجية المحلية وبعض وسائل الإعلام العربية الأخرى، متأثرة بما يحدث على الساحة الإعلامية العالمية، في تغطية الاضطرابات التي تلت الانتخابات الإيرانية بالطريقة نفسها التي واكبت بها العملية الانتخابية. وكتب محللون وكتاب عديدون أن ثمة «ثورة على الثورة»، وأن «خامنئي نفذ انقلاباً عسكرياً»، وبالغ آخرون فذهبوا إلى «ربيع طهران»، والشاهد أن ثمة اضطرابات في إيران في أعقاب الانتخابات، لأن صراعاً نشب داخل نخبة الحكم الضيقة، وذلك الصراع سيأخذ طريقه إلى التسوية على قاعدة الحل الوسط والمنافع المتكافئة.

رحل جورج دبليو بوش، ووجه أوباما رسالة ود للقيادة الإيرانية في عيد النيروز الماضي، وخاطب العالم الإسلامي من القاهرة ماداً يده، وداعياً إلى «بداية جديدة»، وبقي المتشدد المحافظ نجاد رئيساً لإيران لسنوات أربع مقبلة، فما التداعيات على دول الخليج العربية؟

ستستمر العلاقات في إطار الارتياب والتحسب وسوء الفهم المتكرر، وسيسعى نجاد الذي اعتبر بلاده «أقوى دولة على وجه الأرض» إلى اختبار هذه القوة باستمرار عبر محاولة فرض الهيمنة على الجيران الأقرب والأكثر حساسية للمقاربات الخشنة. ومن ذلك، الأحاديث عن «الخليج الفارسي»، وعن ضرورة إبعاد القوات الأجنبية عن المنطقة، والعمل على تطوير منظومة أمنية إقليمية يكون للجمهورية الإسلامية دور أساسي ومهيمن فيها.

وقد تسعى طهران إلى استخدام أذرعها وأدواتها سواء في لبنان أو العراق أو الأراضي الفلسطينية وغيرها، لإقناع الولايات المتحدة بمتانة موقفها التفاوضي في حال رغبت في تسوية سياسية لأزمة الملف النووي والدور الإقليمي الإيراني، وفي تلك الحال ستتعرض دول الخليج المعتدلة لضغوط كبيرة من بعض الأنظمة والإعلام والجمهور العربي الفائر.

ستكون السعودية تحت قدر كبير من الضغوط، فمن جهة ستتعرض جهودها الإقليمية لإحلال السلام العربي-الإسرائيلي ضمن محور الاعتدال العربي، وتصليب الأوضاع الفلسطينية واللبنانية الداخلية منفردة أو بالتعاون مع مصر، لضغوط متتالية من إيران ومحورها. ومن جهة أخرى، فإن استمرار وجود رئاسة متشددة في إيران، في أجواء صراع مرير على الملف النووي، قد يؤدي إلى المس باستقرارها الداخلي عبر التأثير في الأقلية الشيعية داخلها.

الإمارات تعرف أن الولاية الثانية لنجاد تعني إبقاء وضع جزرها الثلاث المحتلة (طنب الكبرى، وطنب الصغرى، وأبوموسى) على ما هي عليه، فلا أمل قريباً في مفاوضات جادة أو ذهاب إلى التحكيم الدولي، وفي الوقت نفسه ستبقى التهديدات المبطنة قائمة ومؤثرة باستهداف الأمن الذي انعكس استقراراً صنع أهم الاختراقات الإماراتية في السنوات الأخيرة.

ولذلك فقد لجأت الإمارات إلى استضافة قاعدة عسكرية فرنسية في أراضيها، وقد نُقل عن دبلوماسي فرنسي آخيراً قوله إن وجود تلك القاعدة يعني أن «فرنسا ستستخدم كل ما بحوزتها من قدرات قتالية في الدفاع عن الإمارات في حال تعرضت لأي هجوم».

البحرين ستكون أيضاً في موضع في غاية الصعوبة، خصوصاً أنها تلقت في الشتاء الفائت هجمات كلامية إيرانية حادة، استهدفت سيادتها واستقلالها، ومست أمنها القومي مساً خطيراً مباشراً. على المنامة أن تتوقع مصاعب أخرى قادمة في ظل استمرار النظام ذاته، وبعدما أحس بمناعته وقوته الكبيرة وقدرته على الاستمرار، وللأسف فإن تلك المصاعب قد لا تقتصر على استهداف السيادة البحرينية بالتصريحات المسيئة، بل قد تتعدى ذلك لتمس الاستقرار الداخلي، رغم ما أظهرته الجبهة البحرينية الداخلية من تماسك في مواجهة الهجمات الإيرانية الكلامية. تبقى العلاقات الكويتية بإيران علاقات فريدة وذات خصوصية واضحة؛ فقد ذهبت تلك العلاقات أحياناً إلى أكثر نقاط المودة والتعاضد السياسي حين أيدت طهران موقف الكويت في مواجهة الاستهداف والغزو العراقي، كما ذهبت إلى أقصى مراحل الصدام حين استهدفت إيران الأراضي الكويتية بالهجمات البرية والصورايخ خلال الحرب العراقية-الإيرانية.

لن تتعرض الكويت لضغوط إيرانية كبيرة كتلك التي تنتظر السعودية أو البحرين، كما لا تربطها مشكلات شائكة بطهران كتلك المتعلقة بالجزر الإماراتية، لكن العلاقات الدفاعية الكويتية بالدول الغربية والوجود العسكري الغربي في منطقة الخليج عموماً قد يفتح الباب لمشكلات بين الجانبين.

ورغم أن للعلاقات الإيرانية بكل من قطر وسلطنة عمان خصوصية نادرة، فإن ما ينسحب على الوضع الخليجي عموماً ينسحب على هاتين الدولتين، خصوصاً في حال تصاعد المخاطر والاصطدام الواسع، وبالنظر تحديداً إلى كون الدولتين العربيتين جزءاًَ أصيلاً وفاعلاً في مجلس التعاون لدول الخليج العربية. الولاية الثانية لنجاد تضع دول الخليج العربية أمام تحديات وضغوط كبيرة، وهي تأتي باحتمالات متباينة وشائكة، وأسوأ ما فيها أنها جميعاً تنطوي على تنازلات مؤلمة وخسائر للدول الخليجية، ولا تكاد تفتح باباً واحداً للأمل.

* كاتب مصري

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء