ظلالُ الحكمة لا تبدو وارفة في شعر وشخص شاعر كالمتنبي أو البحتري، لكنها ظليلة في شعر وشخص شاعر كالمعري، ولكن أين نضع أبا نؤاس؟

Ad

أبو نؤاس وحّد المعرفة بالخبرة وقطف الثمار. لقد تبين له، بعد المعرفة العميقة المعهودة لديه، شيءٌ ما من أسرار الحياة، فاختار على الأثر، وعن إرادة حرة، شرطَه الإنساني. ولذا نملك أن نتحدث، دون تردد، عن الطريق الموصلةِ لديه من المعرفة إلى الحكمة.

في النثر لم يحقق الجاحظ، أستاذ الناثرين داخل عصر الاستنارة العربي، قطعَ الطريق تلك، في حين أنجز المهمةَ أروع المتأثرين به بعد أكثر من قرنين من الزمان وهو التوحيدي.

توحدت المعرفة لديه بالخبرة فأنتجت كياناً ممروراً. تماماً كما أنتج التوحيدُ ذاك كياناً متشائماً من المعري، وكياناً احتفائياً من أبي نؤاس.

هناك شعراءٌ وكتّابٌ عادة ما أكرر العودة إليهم كل حين، لا لالتقاط معلومة، فكرة أو عاطفة، بل لاستبدال مُناخ بمناخ. للدخول في بحران عالم لا تحققه إلا الحكمة تلك. الحكمة التي قد تبدو عبوسة غاضبة، حزينة متكدرة، أو طليقة ضاحكة. هناك شيء شخصي في المعرفة. في الحكمة يتلاشى الشخصي في الكلي.

شاعر مثل البولندي ميووش (1911-2004) يحقق لي ذلك دائماً. قصيدتُه لم تعد استجابة، أو ردةَ فعل للتاريخِ وما يعتمل فيه من أحداث متسارعة. ولم تعد وليدة عواطف داخلية على مستوى الاستجابة وردود الأفعال تلك. وهي ليست بالتأكيد وليدة إيمان بفكرة أو مُعتَقد. بل هي «ملاحقة ملتهبة للحقيقي» على حدّ تعبيره. توصلت إلى البديهة عبر توحيد المعرفة بالخبرة. والبديهة فيها عميقة ومضيئة، فهي لا تنشغل بالمغامرة اللغوية، والإجهاد الشكلي، والكد من أجل الصورة المبتكرة، المدهشة. أمورٌ لم يعد لها طعم داخل الشعر الذي قطع الشوط من المعرفة إلى الحكمة.

إن التيار الشكلاني الشائع يفترض أن الخبرة والتجربة منفصلتان عن إدراكنا لهما، ولا يعتبرهما إلا مادة خاما. ولذلك يعوم النصُّ المبتدَع وحده في فضاء مفرغ من الهواء. والتيار الشكلاني الشائع، أيضا، شأن التيار الملتزم الشائع، يفترض غيابَ الإنسان وحضور الشكل المجرّد (على هيئة بناء أو فكرة) بدله.

معاودة صحبة شاعر لا يُمَل مثل ميووش تتكرر مع اليوناني- الإسكندراني كفافي. إنه احتفائي كأبي نؤاس، ولكن بأسى. ولا يمكن أن تلجأ إليه كمرآة لأحداث التاريخ أو الأشخاص أو الأفكار الكبرى الباردة داخل العقائد. بل أنت تلوذ به لرحابة الإنسان غير المحدودة فيه. إنه يحتضن الحب والكراهية في العالم بذراعيه. ويذكر ببيان ابن عربي: «لقد صار قلبي قابلاً كلَّ حاجة...». ويذكرك بصحبة آخرين من أمثال جلال الدين الرومي، حافظ، الخيام، كبير، وطاغور. والشعر الغربي يحفل بعدد من هؤلاء.

من الكتب التي أعاود التقاطها من رفوف مكتبتي كلَّ حين: «أحاديث مع غوتة» (1847) للألماني جون بيتر أكرمان (لا أعتقد أنه مترجم الى العربية). كم يؤنسني أن أكون ثالثهما المنصرف للإصغاء وحده، وهما في جولتهما الحرة في حديقة البيت في فايمر. ولكن تدفقات غوتة الكلامية المشحونة بالأفكار المتأملة لا يمكن إلا أن تقودك الى التخلي عن الصمت والانخراط في الحوار.

كتاب الأسكتلندي جيمس بوزويل «حياة صمويل جونسون» (1791) قريب الشبه في عمق الحديث في التجوال مع صاحب القاموس الإنكليزي الأول. على أن حكمة جونسون التي أرخها وخلّدها بوزويل تجسدت أكثر في كتاب جونسون الحكائي الرائع «تاريخ راسيلاس» (1759). لقد وضع الكتاب على عجل في أسبوع واحد، من أجل المكافأة لتوفير ساعات أخيرة مريحة لأمه، وهي في النزع الأخير. إلى جانب توفير تكاليف الجنازة والدفن المتوقعين. ولذا غطّت مسحة أسى كابية تأملات النص في الإنسان والحياة.

أصوات مبدعة قطعت ذلك الشوط من المعرفة إلى الحكمة. ولكن الأصوات الكثيرة هي التي اكتفت بالمعرفة ساحة للمعترك. وأصوات أكثر شغلت نفسها بوهم السعي الاستعراضي إلى المعرفة، واكتفت به.