العلة
في إحدى الممالك السحيقة في الزمان والمكان، كان الملك المعتل الذي لا يرى إلا من خلال الرسوم والتماثيل، ينشر على نفوس الرعية طبقة ثقيلة من الهيبة، وكانت تلك الهيبة تستقر فوق طبقة سميكة من الرعب يبسطها جلاوزته الذين بأيديهم أن يقتلوا أي إنسان لأدنى شبهة ومن دون محاكمة.
كان في هذه المملكة رجل صالح حباه الله موهبة شفاء الأمراض التي لا أمل في شفائها، وكان دائم الدعاء في سره بأن يشفي الله عباده من جور هذا الملك الجبار... وعلى رغم علمه الأكيد بأن الملك يشكو من مرض عضال، إلا أنه لم يفكر أبداً بعرض خدمته عليه، زاهداً تماماً بكل ما تجلبه هذه الخدمة من حظوة وعطايا.وعندما اشتد المرض على الملك من دون أن يفلح العرافون في ترميم جسده المتهالك، طمعوا بالنجاة من دون الحظوة، فأبلغوه بأمر الرجل الصالح. وفوراً انطلق جلاوزته لينقبوا عنه في البلاد، فلما عثروا عليه وجيء به الى الملك وعده بجليل العطايا إذا هو شفاه من علته.قال الرجل للملك: علاجك يا صاحب الجلالة سهل جداً، لكنني أخشى ألا تستطيع تحمله. عجب الملك من كلام الرجل، واستحثه على الإيضاح، فقال الرجل: لا بد لي يا مولاي، في أثناء علاجك، من أن أبصق في وجهك على مرأى من الملأ، وكي يفعل العلاج فعله يجب أن تنحني بعد ذلك لتقبل يدي شاكراً.حمحم الوزراء مغيظين، وتحسس السيافون مقابض سيوفهم، ووجم الملك حائراً. لكنه بعد فترة وازن فيها بين أن يموت مع العزة والجبروت، أو أن يحيا مع الإهانة العابرة، أشرق وجهه بالرضا وقال: لا بأس.ثم أذن مؤذن داعياً الرعية إلى حضور مشهد العلاج، فاجتمع خلق كثير كسيل من النمل حول القصر المنيف، وترنحت الأجساد المكفنة بالأسمال متلاطمة كالموج، وعنت الوجوه الصفراء المتئبة لمن في الشرفة. قال الرجل الصالح في سره، وقد غمرته نشوة عارمة: ها قد حانت ساعة الشفاء... إنني في اللحظة التي سأشفي فيها جسد الملك، سأكون قد قتلت معناه.وتراءى له الطاغية الجبار وقد ماتت هيبته في عيون ضحاياه، حين يرونه مذعناً لقبول الإهانة مقابل الفوز بأيام من العيش، هي مهما كثرت ستكون ضئيلة جداً بإزاء الثمن الباهظ المدفوع فيها.وعلى حين غرة انتبه الرجل من سكرة خواطره على انفجار هتاف الجماهير من حوله.كان الهتاف خارقاً، وكأنه خلاصة الأصوات المدخرة في الحناجر منذ قرون: «بالروح، بالدم، نفديك يا مليكنا العظيم».تكرر الهتاف بلا هوادة، وصار يرتفع ويرتفع حتى ارتجت لصداه جنبات القصر...تجمد الرجل الصالح في مكانه كالمصعوق، وراح يردد نظراته الحسيرة بين وجه الملك المنتظر لجرع الدواء، وبين وجوه الجماهير المحتقنة بالهتاف.وحين استطاع، بعد جهد جهيد، أن يفيق من ذهوله، استدار عن الملك فجأة، واقترب وئيداً من حافة الشرفة... ثم أطلق نحو الجموع بصقة هائلة!