عقاب المبدعين
مناخ لندن الخريفي والشتائي يتصف بالخبث، في مخيلة من يتصّيد الدفء المناسب للخروج من البيت، فهو حين يُشمس يزداد برودة، ويدفأ حين يُلح بالمطر. والبرودة والمطر لا رحمة فيهما بأحد، ولكني قررت هذا الأسبوع البارد الممطر أن أخرج، وأشاهد فيلمين جديدين عن حياة مبدعين في الرسم والشعر. الأول عن امرأة فرنسية عامية، اكتشفت ولعها بالرسم بعد سن الأربعين، والثاني عن شاب إنكليزي فاجأه الشعر في مطلع شبابه، وعاجله الموت على الأثر، الأولى تكاد تكون مجهولة حتى اليوم، والثاني نجمٌ خالد في سماء الشعر الإنكليزي. الفيلم الأول «سيرافين» (لمخرج فرنسي شاب يُدعى مارتن بروفوست، وأحسب أنه فيلمه الأول، حاز هذا العام جوائز فرنسية عديدة) يحكي عن خادمة بسيطة تجاوزت الأربعين تُدعى سيرافين، من مدينة سينلِس. تُكتشف من قبل ناقد ألماني للفن مقيم هناك، في نهاية الحرب العالمية الأولى. المَشاهدُ، لصيقة الصوت بإذن المُشاهد ولصيقة الصورة بعينيه، تبدو مبتلة على امتداد الفيلم. سيرافين في الساعات الشاغرة تتسلق شجرة وتتعرض للريح. تجمع، مثل النحل، قطرات دم الحيوان في المطبخ، وشمع النذور في الكنيسة، والأزهار الملونة في الحقل. وفي غرفة سكنها البائسة تسهر على صناعة ألوانها، وتبدأ الرسم بالأصابع على لوح الخشب: تشكيلات أزهار أو فاكهة تشبه في توهجها نجوماً سماوية، ولا تثير ما تثيره الأزهار من طمأنينة، بل تملأ قلب المشاهد روعاً وارتياباً.
بعد اكتشافها بالمصادفة من قبل «يودي»، الناقد الألماني الذي اكتشف الرسام البدائي روسّو من قبل، تتحول حياتها إلى رخاء لم تنعم به إلا فترة وجيزة، لأن سذاجتها الطفولية الكامنة فيها تتحول هي الأخرى ولكن إلى الجنون، ترتدي ثياب عرس متوهّم، وتخرج إلى شوارع المدينة الصغيرة، تحت نظرات الإشفاق. تلتقطها سيارةٌ للشرطة إلى حيث الإقامة الطويلة في مستشفى المجانين، لتموت في العزلة عام 1942، ولتُدفن في قبر جماعي.الفيلم الثاني «نجم ساطع» رائعة أخرى لمخرجة لها سابقة في فيلم لا يقل تأثيراً عن هذا. جين كامبيون التي حققت شهرتها من قبل في فيلم بيانو (1994). وحكاية الفيلم الجديد (تعتمد سيرة الحياة التي أصدرها الشاعر المعاصر أندرو موشن عام 1997) لا يعرض حكاية مبدعٍ مجهول كالأول، فبطل الحكاية هذه المرة الشاعر الإنكليزي جون كيتس (1795-1821)، أحد أعمدة الحركة الرومانتيكية في القرن التاسع عشر، ولكنه مثل سيرافين مات وهو لا يعرف ذلك. بل مات وهو بعدُ لم يحقق خطوته الشعرية الأولى في سن الخامسة والعشرين. الفيلم يقتصر على حكاية حب بين كيتس، وكان في الثالثة والعشرين من العمر، وشابة في الجوار في الثامنة عشرة (فاني براوني)، لم تُثمر إلا قبلة أو قبلتين، في غمرة عوز مالي دائم، ومرض بالسل لا يرحم، وتوق شعري لا مدى له. الفتاة صارت تفضل الشعر على التطريز بدافع حبها للشاعر، الذي تراه أفضل من وردزورث، والشاعر تحت رعاية صديق يقيم معه. يعرف موهبته، ويحرص لو يعزله عن العالم الخارجي. الإقامة في منطقة هامستيد، وكانت حينذاك (1818) نائية عن مركز لندن، ومعزولة. المعزي الوحيد لكيتس هو حبه للشعر. على أن شعره لم يجد سوقاً ولا نقاداً مشجعين.حين تسوء حاله يحرص بضعة أصدقاء على معونته مالياً من أجل الابتعاد عن مناخ لندن الرطب والسفر إلى إيطاليا، عل مناخها المتوسطي يجفف الرئتين من الرطوبة والبرد، ويذهب كيتس مودعاً الحبيبة الباكية في خريف 1821، ليموت في روما في الشتاء الذي يليه، ما أبخل حياته، وأبخل مرضه!كان كيتس يدرس الطب، ولا علاقة له بالشعر حتى الثامنة عشرة. وفي الثالثة والعشرين كتب أعظم قصائده، على عجل، ليموت في الخامسة والعشرين. قبضة تعتصر القلب، وهي سر من أسرار شرطنا الإنساني كما يبدو. كان كيتس عندليب موت، وغبطة في حمى التعارضات. وقصيدته تكشف دائماً عن صراع مع مشكلة الشر والمعاناة في العالم، ولعلها الفكرة الرمادية الأكثر تأثيراً، التي صحبتني، بعد مغادرة صالة السينما، إلى البيت!