«ينبغي صيانة جميع صور اللغة واستخدامها، فهي كائنة في الصحراء، حيث ينبغي الذهاب للبحث عنها».

Ad

كانت هذه هي العبارة التي تصدرت كتاب «أسيرعاشق» لجان جينيه بعد وفاته في عام 1986. وكان قد عكف على كتابته منذ 1984. لم أعرف كاتباً غربياً سطر على نحو عميق وإنساني تجربة المقاومة الفلسطينية مثلما فعل جان جينيه، هذا كاتب مختلف كلياً ولا يشبه الآخرين.

في تلك الأيام كانت هناك طنجة، وطنجة هذه هي التي ستُعرِّفني بنوع من المودة الخالصة الى الصديق والكاتب محمد شكري.

أجمل ما في طنجة؟ الليل. مستودع ضخم لذخائر القلوب والعواطف، ليل يترافق وموجودات الحياة بشهوانية وخفة، كأن الأشياء هنا لن تنتهي أبداً، وهناك ذلك الضباب المنتشر والممزوج بحكايات البحارة وصراخ المخمورين في أكثر الحانات عتمةً، انه دليل آخر على أكثر ليالي المدن إغراء في العالم، هنا يرقد الإثم وتتفتح الرغبات مثل أزهار بيضاء. طنجة مدينة شبيهة ببرج بابل، طبقات من اللغات وفق الحاجة والمزاج. ليل حياة وليس ليل ثقافة، لذا مَرَّ وعاش من هنا عدد لا بأس به من الكتَّاب والفنانين الأجانب، ابتداء من جاك كيرواك، وليم بوروز، جان جينيه، صموئيل بيكت، دون أن ننسى الكاتب الأميركي بول بولز، الذي أقام فيها ما يقرب من نصف قرن، لكن إقامات جينيه الذي سأتحدث عنه تختلف عن إقامته في سبعينيات القرن المنصرم مع الفدائيين في المخيمات الفلسطينية، جرش، إربد. في ظهيرة رائعة كنا، محمد شكري وأنا، قادمين من طنجة، تلك المدينة التي تستلقي على أسرة من الأمواج، الى الرباط، عرّفني فيها شكري مصادفة بجان جينيه، هذا الكاتب الذي كان يعد أحد أكبر الكتاب الراديكاليين القلائل في العالم. لقد التقينا في شارع عام على نحو دقائق لا غير قرب ظل شجرة وتحت شمس خريفية، وكنت ألتقي جان جينيه للمرة الاولى، بعد ان قرأت له معظم اعماله تقريباً، وكنت على اطلاع بمختلف اشكال العلاقة التي نسجها جان جينيه بالحركات الطليعية في العالم على الصعيدين الاحتجاجي والثقافي ايضاً، الثورة الجزائرية، مايو (ايار) 68، الفهود السود في الولايات المتحدة الأميركية، بالإضافة الى علاقته بطنجة. كان جان جينيه وقتها مصاباً بسرطان الحنجرة، ويرتدي قمصلة جلدية قديمة، عينان صغيرتان وزرقاوان في منتهى الحدة هكذا احسست، وعندما عرف أنني من عُمان مد لي يده ليصافحني، ثم سألني سؤالاً عابراً عن عمان فأجبته باقتضاب، إذ سرعان ما اخذتنا شكري وأنا أزقة مدينة الرباط، لكنني لمحت جينيه في ما بعد أكثر من مرة ولم أشأ ازعاجه، هو الذي كان يبعد عن نفسه صفة الكاتب الى أبعد الحدود، كما أنه لم يكن يهتم بالشهرة الأدبية، بل كان يسخر منها. قدم جان جينيه في كتابه «أسير عاشق» ونصه «أربع ساعات في شاتيلا» شهادةً جريحةً عن التجربة الفلسطينية، فاضحاً الدولة العبرية وتواطؤ الدول الغربية، بقسوة ودون تنازلات.

يقول جينيه عن تجربته الفلسطينية: «كنت قبل وصولي هناك، أعرف أن وجودي في القواعد الفلسطينية على ضفة الأردن، لن يقال بوضوح ابداً: لقد استقبلت هذه الثورة كما تتعرف أذنٌ موسيقية على النغمة الصحيحة». وفي أربع ساعات في شاتيلا، التي كتبها إثر الزيارة التي قام بها الى مخيمي صبرا وشاتيلا في سبتمبر عام 1982، إبان الغزو الاسرائيلي لمدينة بيروت، قدم جينيه نصاً حياً وجارحاً عن المجزرة التي ارتكبت هناك، هو الذي دخل المخيمين ورأى بعينيه، تلك الجثث المتناثرة وهو يكاد لا يصدق بشاعة الجريمة التي اقترفت. وأربع ساعات في شاتيلا، نص إشكاليٌ ومفتوح، يختلف عن اعماله المسرحية الشهيرة إلا انه قُدم أكثر من مرة على خشبات المسارح في العالم. نصٌ يحكي واقعة الرعب والتراجيديا. وكان العمل الفدائي الفلسطيني بالنسبة إلى جينيه يرقى الى مصاف القداسة. كان جينيه يعي تماماً موقفه الرافض والجذري لكل اشكال التسلط، مهما كان نوعها، هو الذي عاش تجربة اللعنة والألم، فكتب «الشرفة»، «الخادمات»، «مذكرات لص»، «سيدتنا سيدة الازهار» و«أسير عاشق» بنفس الزخم والقسوة وبلغة وصفت على الدوام بأنها جوهر بلاغة الكلاسيكية الفرنسية. لقد كان تمرد جينيه المبكر حقيقياً وقدرياً فعرف التشرد والسجون حتى رفعه جان بول سارتر الى مرتبة القديسين والشهداء في كتابه الشهير «جان جينيه القديس والشهيد».