حين يقدس البشر بشراً مثلهم!
في الأفلام العربية، تدور القصة والأحداث حول شخصيتين: الطيب والشرير، والطيب في هذه الأفلام طيب إلى أقصى حد، بل هو الطيبة ذاتها تجسدت على شكل بشر، لا عيوب فيه ولا أخطاء «كامل والكامل الله»، أما خصمه «الشرير» فعلى النقيض تماما منه، فهو شر مطلق لا يصدر عنه خير أبداً، ومنذ بداية الفيلم حتى نهايته يفيض خسة ودناءة ولؤما، والمشاهدون صابرون عليه وعلى شروره بانتظار النهاية السعيدة المعتادة ليشمتوا به وهم يرون نهايته على يد البطل الطيب الذي يقترب في نقائه الأخلاقي من مرتبة الملائكة!والخلاصة التي تخرج بها من الفيلم العربي أن البشر صنفان فقط: أبيض ناصع البياض، وأسود شديد السواد!
وهو تصنيف لا علاقة له بالواقع أبدا، لكن، لأن الفيلم مشروع تجاري قبل كل شيء، ولأن الجمهور دائما «عايز كده» فلابد من تقديم شخصياته على هذه الشاكلة، وإلا فلن تجد من يتابعها، لأن الغاية من مشاهدة الفيلم هي أن يعزي المشاهد نفسه بوجود عدالة في هذه الدنيا تنصر الطيبين «وهو أحدهم طبعا» على الأشرار «الذين يكرهونه»، حتى إن كان انتصارا سينمائيا مؤقتا!وبعض الناس حياتهم أفلام في أفلام، أو أنهم يرون الدنيا كما يرون الأفلام، ويصنفون الناس كما تصنفها الأفلام إلى صنفين، خير مطلق وشر مطلق، ولذلك، تجدهم حين يعجبون بشخصية سياسية أو فكرية أو دينية، يبالغون في تقديرها وينظرون منبهرين على أنها شخصية متكاملة، لا تشوبها شائبة ولا يعتريها نقص في جانب من جوانبها الأخلاقية، فلا يتخيلون- مجرد تخيل- أنها قد تكذب أو تحتال أو تسرق أو تخون أو تضحك عليهم جميعا!ويترتب على هذا الانبهار المرضي احتقار وكراهية لكل من يخاصم هذه الشخصية أو ينتقدها أو يختلف معها في الرأي، والنظرة إليه ستكون فورا بأنه كاذب ومخادع وعميل ومنافق إلى آخره من الاتهامات المعلبة والجاهزة لأمثاله! وبين التعظيم والتنزيه والتقديس الساذج لجانب، والكره والبغض والاحتقار وسوء الظن لجانب الآخر، يتدخل المنطق والواقع والتاريخ لتفصل في المسألة، وجميعها متفقة على أنه ليس هناك ملائكة على هيئة بشر تعيش على الأرض، وكذلك الشياطين لا تمشي على قدمين، فالبشر مهما بلغوا من الطيبة والشرور يبقون وسطا في سلوكهم وأخلاقهم بين الملائكة والشياطين، ومهما ارتقوا في سلوكهم ونقائهم الأخلاقي فلن يصلوا إلى مستوى الملائكة، وإن هبطوا وانحطوا فلن ينزلوا إلى مستوى الشياطين... أتكلم هنا عن 99.9% من البشر! ومهما ارتفع وارتقى الإنسان بإنسانيته فسيظل دائما بشرا يخطئ ويضعف أمام المادة والغريزة، ومهما انحط بإنسانيته وانحدر بسلوكه فسيظل فيه، رغم كل شيء، بقايا نزعة البشرية نحو الخير والرحمة، حتى إن كانت في أدنى درجاتها!وتقديس إنسان لإنسان مثله سذاجة لا سبب لها، سوى هياج العاطفة وغياب العقل وقلة الثقافة والاطلاع، والإدمان على مشاهدة الأفلام والمسلسلات المحلية والعربية التي تصنف البشر إلى صنفين فقط: طيب وشرير، والتي تأتي متواكبة مع مناهج دراسية تغذي هذا التفكير في عقول الناشئة حين تقدم الشخصيات التاريخية على نفس النمط، ملائكة وشياطين، مع أن الناس كانوا وسيبقون دوما مزيجا من هذا وذاك، يرتفعون حينا وينخفضون حينا آخر، لكن أكثرهم لا يعلمون! وجرب أن تنتقد في هذا البلد أداء سياسي من السياسيين أو شيخ من شيوخ الدين، أو نائب من النواب أو وزير ينتمي إلى كتلة أو تجمع سياسي أو قبلي، وأجزم لك أنه سيخرج لك لحظات من يضعك في خانة العملاء والمنافقين والخونة المندسين، فمدمنو الأفلام كثر حولنا، وهواة التصنيف أكثر، والبشر الذين يقدسون ويكادون يعبدون بشرا مثلهم لا حصر ولا عد لهم بيننا! كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء