«راحت السكرة وإجت الفكرة» كما يقولون، وإذا بواشنطن تقول «محمود أحمدي نجاد هو الزعيم المنتخب، وأن الإيرانيين هم من يقررون إذا ما كانت الانتخابات نزيهة أم لا»! فإذا كان الأمر كذلك فلمَ إذن كان كل ذلك الضجيج؟!

Ad

ببساطة، لأن المطلوب كان من الأساس زرع بذرة الشك والتردد والنفاق والفتنة بين صفوف الشعب الإيراني، بعد أن يئسوا من كل الخيارات الأخرى وعلى رأسها الخيار العسكري.

طبعا لن يبعث غوردن براون برسالة تهنئة للزعيم المنتخب، كما صرح هذا الزعيم العمالي البريطاني، ظنا منه أن الشعب الإيراني لن يهدأ له بال ما لم تصل إليه هذه الرسالة المباركة!

ليس وحده «جنبلاط طهران» كما سماه أحد كبار المسؤولين العرب الذي زار العاصمة الإيرانية أخيرا هو الذي قلب لهم ظهر المجن، بل كانوا كثيرين أولئك الجنبلاطيين الذين دفعتهم ظروف الاعتقال والسجن غير المؤاتية أن يجروا «المراجعات» التي كانوا يتداولونها همسا عشية التحضير للانقلاب المخملي الذي كانوا يمنون النفس به، ولكن هذه المرة بالمقلوب.

ما قاله السيد محمد علي أبطحي أخيرا على شاشات التلفزيون المحلي الإيراني والذي تناقلته مختلف وكالات الأنباء العالمية فيما بعد، ربما أثار العديد من التساؤلات ومظاهر الاستغراب لدى المتابعين للشأن الإيراني، بل ربما الامتعاض لدى بعض أصدقائه والمحبين، لكن من يعرف المدعو «جنبلاط» طهران جيدا يعرف تماما أن جوهر ما قاله الرجل هو تماما ما كان يهمس به هو وأغلبية من عملوا على مدى سنوات استعدادا لتلك اللحظة التاريخية.

نعم، إن ظروف المعتقل ليست هي ظروف الاحتفال بالذكرى السنوية لانطلاق فضائية عربية كرست نفسها لشيطنة إيران الثورة والنظام والجمهورية والزعيم المنتخب.

ولا هي بالتأكيد ظروف المؤتمرات الدولية للحوار بين الأديان التي لطالما استضافت العديد ممن كانوا يمنون النفس بسقوط قريب للمرشد ونظامه الديني «المتشدد والمتصلب» تجاه الغرب «المتسامح وأفكاره النيرة والمستنيرة» كما يصفون.

لكن ذلك لن يغير من شيء أمام الحقيقة الناصعة التي كان يعرفها كل من يعرف «الجنبلاطيين» الإيرانيين الذين توهموا للحظة بأن الأميركيين قادمون وسيقفون بقوة إلى جانب موجة «التغيير» التي انطلقت من بيروت كما كان يفترض والتي كان لابد لها أن تصل إلى طهران حسب المخطط المدروس.

لكن الفرق بينهم وبين جنبلاطيي طهران الذين فوجئوا بـ7 أيار الإيراني تماما كما فوجئ نظراؤهم اللبنانيون بـ7 أيار اللبناني الشهير هو أن الأخيرين اضطروا للقيام بمراجعاتهم على طريقة مراجعات السجون والمعتقلات من أجل معالجة رواسب 7 أيار الخاص بهم، إذ لم تسنح لهم الظروف أن يعالجوها من خارج المعتقلات كما يفعل جنبلاط الأصل حاليا.

أعرف أن الأمر لن يقبل بهذه السهولة لا من قبل الأصدقاء ولا من قبل الخصوم، تماما كما أعرف أن الأمر ليس كله من صنع مقولة «المؤامرة» التي لطالما هجاها العرب والمسلمون مرة بهدف التعبير عن عقلانية مستنيرة بها يتغنون ومرة بهدف جلد الذات وإبعاد شبهة الشعوذة والعدمية والجهالة عن أنفسهم، إلا أن الحقيقة الناصعة التي لابد أن نقر بها يوما، ألا وهي أننا مهما زعمنا باستقلالية مراجعاتنا الفكرية والسياسية، فإن الغلبة في هذا العالم المسكون بالإجحاف واختلال موازين القوى وسيطرة القوي على الضعيف والرجل الأبيض على كل ألوان الرجال الأخرى ما لم نتمسك باستقلالية قرارنا حتى النفس الأخير، فإن الغلبة ستكون للطرف الأقوى الذي يمسك بأغلبية الأوراق.

ألم يقولوا هم أنفسهم إن العالم أصبح معولما، وإننا جميعا بتنا في مركب واحد إما أن ننجو سويا وإما أن نغرق جميعا، وهو ما ظللنا نردده وراءهم لسنوات طوال؟!

لكن السؤال الأصعب الذي تنبغي الإجابة عنه الآن هو: من كان ربان هذه السفينة التي دخلنا إليها جميعا طوعا أو روعا؟! ألم يكن هو ذلك الرجل الاستعماري الأبيض المتربص بنا نحن أبناء الجنوب مجتمعين؟! فإذا كان كذلك وهو كذلك فلماذا إذن شيطنا ونشيطن كل من أراد أن يستقل مركبا خاصا بشعبه وأمته؟!

أعرف أن المراجعات حق مسلم به للنخب وأعرف أن الأفكار والعقائد وحتى الدين عندما تتحول إلى «مذهب» رسمي، تتحجر مقولاتها وتصبح كالماء الراكد والفاسد، لكن ما أعرفه أيضا أن فقه الحكم هو فقه الميل للعامة من الناس وليس الميل للخواص، ذلك أن الميل للخواص يفسد للعدالة طريقها.

ألا يتذكر أصحاب المراجعات هؤلاء أننا لطالما حذرناهم من قول الكلام المعسول أمام الرجل الاستعماري الأبيض لأنه سيطمع بهم؟! ألم يقل لي أحد كبارهم مصدقا: «والله لو تركت فلانا يفعل ما يشاء لوضع يدي بيد الصهاينة»؟!

إنه المكر الذي لا يحيق إلا بصاحبه.

أعرف أن ملايين المحبين والمصوتين وربما العاشقين غاضبون اليوم مما رأوه أو شاهدوه من «مراجعات» بالمقلوب على شاشات التلفزة ومن وراء القضبان وأنهم لن يسلموا بسهولة بالخسارة التي لحقت ليس فقط بمرشحهم بل بقياداتهم التي يجلون بل ربما يقدسون، لكن ألم تكن السياسة دوما هي فن الممكن؟!

كل ما أتمناه لكبار القوم من أمثال الرئيس الأسبق أكبر هاشمي رفسنجاني والرئيس السابق محمد خاتمي هو أن يتصرفوا الآن وقبل فوات الأوان كرجال دولة مسؤولين، بعد أن خاضوا معركتهم السياسية الحزبية مع خصمهم «المشيطن» محمود أحمدي نجاد وخسروا الرهان على «التغيير» الذي كانوا ينشدون، وأن يخرجوا أنفسهم من شرنقات «النخب» الفئوية الضيقة الأفق، والأهم من دوائر المتربصين بهم السوء من المتدثرين بعباءتهم من تعساء القوى المناهضة لثورتهم التي يفترض أنهم يعشقون، ونظامهم الذي يفترض أنهم فيه مؤسسون، ووطنهم الذي يفترض أنهم يحبون، ودينهم الذي يفترض أنه عين سياستهم التي يمارسون حسب قول إمامهم الذي يقلدون.

* الأمين العام لمنتدى الحوار العربي - الإيراني

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء