في ضيافة الشاعر
كان الوقت فوق منتصف الليل بكثير، ونحن ننقل خطواتنا على مهل فوق الممرات المغبرة، الضيقة. أحياناً على يسارنا تظهر الجدران الطويلة، القديمة، انه لون الطين والحجارة اللامعة. يهب نسيم رائق على الأشجار، انه فصل الربيع، على الارجح، القمر كان هناك، يضيء من حولنا الموجودات، كأنه شقيقنا الذي يحرس خطواتنا من بعيد، نقنقة الضفادع وازيز الحشرات، وخرير المياه في السواقي، شيء اشبه بسكنى الشعر في الطبيعة. تذكرت طفولتي في حقول وبساتين نفعاء وسرور، لكنني الآن في صحبة الشاعر، نحجّ معاً الى أمكنة أخرى، الى عوالم طفولتنا وفضاءات اسلافنا. كان الشاعر صامتاً، انه يتأمل، انها صفة الشاعر الأصلية، هذه هي عادته، انه يغرق في الزمن. هأنذا اذن في ضيافة الشاعر، في مكان يحفظه عن ظهر قلب. كنا ثملين بالليل، برهافة الطبيعة، وكانت السماء لامعة كأنها بستان من الخرز. في المكان ونحن ننتقل بين الممرات تحدثنا بذاكرة متقدة، عن الأمكنة والدروب التي كنا نمشي فيها، عن بعض أهالي البلدة القدامى، اغلبهم رحلوا تقريباً، وغطتهم سماء النسيان. مَنْ كان يسكن في هذا المنزل الطيني المتداعي أو ذاك؟ مَنْ كان يسقي هذا الحقل أو ذاك؟ كان حديثنا، عفوياً، لكنه كان يصب تماماً، في جوهر الشعر، جوهر العزلة، وبقايا طفولة بعيدة. ربما تحدثنا أيضاً عن أشياء أخرى، عن ملامح غائمة في أمكنة قصية، عن شعراء غادروا أمكنتهم للذهاب الى الأقاصي. وكنت أفكر في نفسي كم سيكون جميلاً لو أن هناك في مكان ما في العالم في هذه اللحظة في ما بعد منتصف الليل هذا، شاعر يحج الى شاعر آخر ويحدثه عن ماضيه. النسيم ما يزال، رقيقاً، بين فترة وأخرى نتوقف عن الحديث. الصمت يلمعُ كإناءٍ من الذهب، الطبيعة فقط تتكلم.
اتذكر الآن كيف زار الشاعر المكسيكي أوكتافيوباث، في شبابه، روبرت فروست في كوخه البعيد، بين الأحراش والغابات، كانت زيارة شاعر لشاعر، نزهة في الغابة، وحديث عن الشعر. ساعتان كانتا كافيتين، ليبدو العالم أكثر جمالاً ونضارة.في تجوالنا الليلي ذاك، يبدو لي أن بدر شاكر السياب كان الأقرب الينا، أو بالاحرى كان ينادي عوالمه من خلالنا، عادة ما يُستحضر السياب، في جوّ من الرهافة واليتم. عالم الطفولة وبويب وجيكور، وحقول النخيل، واناشيد الأمطار، بينما الزمن يلقي بظلاله على الأشياء، انا في ضيافة الشاعر اذن. نسير معاً، نكتشف معاً، عالماً خفياً، يجرّنا اليه، كما يجر الموت احباءه المخلصين، انعطفنا يساراً الى مزرعة بدت لنا شاسعة، غابة من النخيل والليمون، وما كدنا نتأمل سرّ المكان حتى اقتحم المشهد بضراوة عامل آسيوي، ليطردنا، في يده قضيب حديدي، وعيناه تشعان شرراً، لقد ظن العامل او الحارس الآسيوي بأننا لصين أو متطفلين، على المكان. ولم يدرِ بأن الشعراء هم لصوص أيضاً لكنهم لصوص كلمات، يوزعونها في ما بعد على الآخرين. أوضحنا له أننا مجرد عابرين. بدا لنا انه خائف، أيخاف احد من الشعراء؟ بالتأكيد لم يكن صاحبنا هذا قد قرأ يوماً طاغور، أو مريام بريتام، رغم كل ذلك فإن تلك الليلة، كانت واحدة من التجليات الثمينة، التي سأظل أذكرها. يقال ان الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران، كان في أيام اجازته، يقوم بزيارة الشاعر الفرنسي، رينيه شار مستضافاً في بيته الريفي وفي ضيافته. كان الرئيس يترك هموم ومشاغل الحكومة، لزيارة الشاعر، ذاك الذي كتب مطرقة بلا معلم، وبين انخاب النبيذ الفرنسي المعتق، كانت تشتعل في وسط الطبيعة جمرة الشعر. فيلسوف الغابة السوداء هيدجر كان أيضاً يقوم بزيارة الشاعر رينيه شار، الشبيه بالحطّاب. إن زيارة للشاعر بالمعنى الذي أعنيه، هي زيارة للمنبع، بقدر ما هي حج روحي.