لم تعد ايران شأناً داخلياً
ما يحدث في إيران ربما يكون أمراً داخلياً خاصاً بالخلاف على الانتخابات، ولكن الأمر الذي لم يلتفت إليه كثيرون بعد هو أن جزءاً كبيراً من الاضطراب الذي يجتاح طهران اليوم هو هزات ارتدادية لما بعد سياسات جورج بوش التي تحدثت عن الفوضى الخلّاقة في الشرق الأوسط، ووصفها الكثير من المراقبين والمحللين وقتئذ بالغباء. وقد تكون تلك السياسات كذلك، لكن ما لا يمكن الاستهانة به هو تبعات سياسات الدول العظمى، فهي شيء أقرب بالزلازل، من لم تصبه الموجة الأولى من الزلزال مباشرة تصبه الهزات الارتدادية المتتابعة التي تليها. وظنى أن الشرق الأوسط، رغم كل تفاؤل باراك أوباما سيعاني هزات ما بعد زلزال بوش أي حرب العراق وحزمة السياسات التي أتت بعدها الهادفة إلى تغيير بعض الأنظمة في المنطقة Regiems> Change، وما حالة الغليان في إيران إلا مثال واضح على ذلك.
أوباما وإدارته الجديدة، مهما اختلفت نواياهما عن إدارة بوش، إلا أنهما لن يستطيعا إيقاف قطار قد ترك المحطة، فتبعات سياسات جورج بوش لن تختفي آثارها باختفائه من البيت الأبيض، ربما يستطيع أوباما أن يهدئ من سرعته لكن قطار الفوضى الخلّاقة قد ترك المحطة، وسنرى دخانه في إيران وباكستان وربما في دول أخرى في المنطقة.أوباما نجح في أن ينزع من رؤوس قادة إيران فكرة أميركا كشيطان أكبر يلعب بمقدرات البلد، ولو كان بوش هو الموجود في البيت الأبيض لما بحث المسؤولون الإيرانيون عن شيطان أصغر متمثلا في بريطانيا، أو عن «قزم» كما لقبوا الرئيس الفرنسي ساركوزي. ضروري بالنسبة للأنظمة الدكتاتورية أن تبحث عن عدو خارجي تعلق عليه «شماعة» فشلها، ولأن أوباما لم يعط النظام الإيراني فرصة جعله تلك «الشماعة»، بحث هذا النظام عنها في يريطانيا وفي الدور «التخريبي» الذي تقوم به هيئة الإذاعة البريطانية الـ»بي بي سي»، خصوصاً القسم الفارسي منها الذي أنشئ حديثاً. أوباما يتفرج فقط على تبعات سياسات بوش في إيران، ويترك القدر الإيراني يغلي حتى ينفجر.لقد وثق الجيل الثاني من الإيرانيين ثورتهم عبر «الميديا» الصغيرة المتمثلة في الموبايل. جيل الصورة يبدو أنه سيهزم جيل الكلمة، وجيل الموبايل قد يهزم جيل الكاسيت الذي أتى بثورة الخميني، وقد شرحت هذه الفكرة في مقال كتبته في مقالي الأسبوعي بجريدة الشرق الأوسط اللندنية.جوهر هذا المقال هو أننا أحيانا نسيء تقدير تأثير سياسات الدول العظمى ونقيِّمها على المدى القصير من دون النظر إلى تبعاتها في المدى البعيد. الفوضى الخلاقة أو المدمرة التي أطلقها جورج بوش الابن ليست وهماً أو كلاماً أطلق في الريح. ومهما حاول الرئيس الأميركي الجديد الابتعاد كل عن سياسات سلفه، خصوصا تجاه إيران، إلا أته لن يستطيع إيقاف الهزات المتتابعة لزلزال بوش في المنطقة. لقد بدأت مؤشرات الفوضى الخلّاقة في طهران، فإلى أين تتجه النار فيما بعد؟ هذا ما يصعب التكهن به، ولكن بالنظر إلى ما يحدث في اليمن وما يحدث في لبنان وباكستان، يمكننا القول إن الأنظمة التي كادت تفقد الكثير من شرعيتها هي الأخرى مهددة بأن تكون عرضة لهزات مماثلة لما حدث في طهران.واضح أن الأمر قد خرج عن السيطرة في إيران، وأنه لا المرشد ولا حتى قيادات المعارضة يسيطرون على الشارع، ومن الوارد أن تخلق حركات الاحتجاج هذه قياداتها الجدية الجديدة، وبهذا يتجرع النظام الإيراني من السم نفسه الذي سقاه للشرعية اللبنانية والفلسطينية وربما العراقية، حيث نجحت إيران أن تخلق فيها فكرة الدولة الموازية بعد أن قسمت المجتمع إلى معارضة ثورية وحكومات عميلة. اليوم إيران ذاتها تنقسم إلى نظام متسلط ومعارضة. لقد كنا في السابق نقول إن إيران تؤثر في لبنان، ولكن من الواضح اليوم أن لبنان يؤثر في إيران أيضاً، فنرى احتجاجات واعتصامات في شوارع طهران بعضها يؤيد أحمدي نجاد والمرشد والبعض الآخر يؤيد موسوي والمعارضة، شيء أشبه باعتصامات «حزب الله» وجماعة 14 آذار في ساحات بيروت. نحن أمام ميلاد حالة الدولة الموازية في إيران، وربما في كثير من الدول التي كانت مستهدفة بسياسة الفوضي الخلاقة.في ردود الفعل الإيرانية الرسمية المتشنجة، كتصريح رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني، والذي قال إن إيران ستحارب الغرب في ساحات أخرى، دليل على ارتباك النظام الإيراني ووقوعه مباشرة في فخ الفوضى الخلاقة. الارتباك الإيراني هو مقدمة لارتباكات أخرى ستسود منطقتنا. ثمن الفوضى خطير جداً بالنسبة لأمن منطقة الشرق الأوسط برمتها، دولاً ومجتمعات... فإيران لم تعد شأناً داخلياً بل هي عدوى إقليمية نتمنى بكل تأكيد ألا تتسع دائرة انتشارها.* مدير برنامج الشرق الأوسط بالمركز الدولي للدراسات السياسية والاستراتيجية IISS