توماس بيرنهارد ... كلامُ العزلة والخسارة
"كان يبتغي أن ينشر كتاباً، لكنه لم يُوفق أبداً لأنه كان يشطب ويُغير في مخطوطه باستمرار. يشطب كثيراً حتى أنه لم يبق في الأخير سوى عنوانها: الخاسر". ربما كانت هذه العبارة هي المدخل الملائم لعالَم الكاتب النمساوي توماس بيرنهارد الذي أحببت كتاباته، وعنوان روايته "الخاسر" دالٌّ بما فيه الكفاية، وهو يذكِّرنا بجملة ما لارميه الرائعة: "كلُّنا ذلك الرجل الفاشل". تدخل إلى عالم بيرنهارد وقد تلبَّسك خوف الكتابة بمعناها الميتافيزيقي المشحون بالألم والخسارة، الألم البعيد والقصيّ البالغ التطرّف، وقد عاش بيرنهارد نفسه هذه التجربة الفاجعة والقاسية بمقدار لا يُحتمل. تتميز أعماله الروائية والمسرحية بمزاج سوداوي حاد، تمتد جذوره عميقاً في كتابات دويستوفسكي، كافكا، بودلير، آرتو، وصموئيل بيكيت.
"لقد انتحرت منذ زمن بعيد، أي: انتحروني"، عبارة آرتو هذه تنسحب على مُجمل شخصيات بيرنهارد الروائية والمسرحية؛ فهناك على الدوام ثيمات رئيسة تتكرر في أعماله: الموت، الانتحار، الجنون المفاجئ الذي يتولد عن تناقض حياتيّ حاد بالغ الحدة والشراسة. ثم هناك العزلة، تلك العزلة المُتطرفة التي هي في نهاية المطاف إنصات حاسم لنبض الكارثة. تبدو شخصيات بيرنهارد كما لو أنها مُتورطة منذ البدء في علاقتها مع العالم، ساعية وراء فكرة واحدة هي الخلاص الذي تنتفي أي إمكانية لتحققه، خلاصٌ هو في النهاية صِنو الخسارة الأبدية. تنتمي أرواح هذه الشخصيات إلى حساسية معطوبة أصلاً، إضافة إلى أنها مشدودة إلى قدَرٍ خفيّ، إلى شيء لا يكتمل أو ينبغي له ألا يكتمل. وفي هذا المعنى ذاته يذهب مفهوم الكتابة عند بيرنهارد، فقد قال مرة إن الشيء المُكتمل، الشيء الجميل يصبح دائماً وأبداً مثيراً للريبة. ومن الخطأ أن تكتمل الكتابة حتى لو كانت فصلاً في كتاب، بل ان الخطأ الأكبر هو أن ينهي المؤلف كتابة كتابٍ ما.إن فكرة الاستحالة أو العجز هذه- من هنا تقاطع بيرنهارد الجلي مع تلك الكينونة الأخرى بالغة الصمت والتقشف صموئيل بيكيت- ستتسرب على نحو عنيف في روايته "كونكريت"، فالراوي الأساسي الذي يُقرر، بعد جمعه وثائق ومدونات، أن يكتب سيرة حياة المؤلف الموسيقي النمساوي مندلسون، لكنه بعد مرور عشر سنوات يكتشف نفسه عاجزاً عن كتابة الجملة الأولى. استحالة البدء هنا تتحول إلى عجز ومفارقة بالغة الدلالة، عجز لأن كتابة الجملة الأولى تعني اكتمال العمل وانتهائه، ومفارقة لأن بيرنهارد لم يكف أبداً عن الكتابة، فقد كتب اثنتي عشرة رواية ومجموعتين قصصيتين ومجموعة شعرية، بالإضافة، وهذا هو عمله الكبير، إلى عدد وافر من المسرحيات. تشير بعض الدراسات إلى أن بيرنهارد يعمد في أسلوبه إلى التكرار المتصاعد على غرار الجُمَل الموسيقية في أعمال باخ والمتوالية الاثنتي عشرة عند فيبرن. يأتي هذا التأثير الموسيقي من كون بيرنهارد نفسه كان ناقداً موسيقياً بعد فشله في أن يكون مؤلفاً موسيقياً (Composer). أما في مسرحياته فتبدو الشخصيات التي تظهر على الخشبة كناية عن الكلمات التي تضيء ورقة الكتابة. مشاهد الداخل المُعتِمة والمضطربة هذه هي مَشغلَتهُ المتكررة باستمرار. ففي مسرحية له حمل عنوانها اسم الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت، تذهب الشخصية الأساسية التي تلعب دور الفيلسوف الشهير بدعوة من جامعة كولومبيا في نيويورك لتتسلم شهادة فخرية، لكن المفاجأة أن أحداً من أساتذة الجامعة أو عميدها لم يكن في استقباله، بل استقبلته مجموعة من الأطباء والممرضين التابعين لأحد معاهد نيويورك المكلفة بمعالجة المجانين. لقد كان بيرنهارد يكن احتقاراً كبيراً للأجواء الثقافية في النمسا، وقد عبر عن ذلك في روايته "قاطعو الأخشاب"، حيث يسخر من أجواء الثقافة المُخمليّة والأكاديمية، وظل هو نفسه طوال سنوات بعيداً، منعزلاً بشكل تام في قرية من القرى الشمالية في النمسا، بل أكثر من هذا فقد أوصى قبيل وفاته (مارس 1989) برفضهِ المطلق لطباعة أي كتاب من كتبه داخل بلاده.