1- اهتمامنا بالعراق على هذا النحو المتزايد والمتواصل يتأتى من عاملين أساسيين هما: التاريخ والجغرافيا. أما عامل التاريخ- وكما أسلفنا سابقاً- فيتجلّى في أن العراق كان حتى القرن السادس عشر وحين فتح السلطان العثماني سليم الأول بلاد الشام ومصر 1517 وهزم السلطان المملوكي الظاهر بيبرس في معركة «مرج دابق» الشهيرة... كان يمثل أكثر من 80% من كل أجناس الثقافة العربية، ويضخ للعالمين العربي والإسلامي روائع الشعر، وكنوز اللغة، والفقه، والحديث، والتفسير، والتاريخ، والفلسفة، وعلم الكلام... إلخ. والعراق الآن مؤهل– تاريخياً– لكي يعيد ريادته لاحتضان وضخ أجناس الثقافة العربية من جديد، بما يملك من إمكانات بشرية وطبيعية، وثروات مائية– وهي المهمة– وبترولية، ومعدنية... إلخ، وبما له من تراث زراعي، وتجاري، وفني غني.

Ad

2- أما عامل الجغرافيا، فقد أعطى العراق أهمية أخرى فوق أهميته التاريخية، لكونه يقع في بؤرة الصراع الدولي السياسي بين الشرق والغرب. صحيح ألا حدود مشتركة بين العراق وإسرائيل، ولكن يكفيه هذه الحدود الطويلة والممتدة بينه وبين سورية، وبينه وبين إيران، وهما تشكلان الآن بؤرة الصراع الغربي–الشرقي السياسي، رغم أن نار سورية قد خمدت– ولو قليلاً- بتعيين سفير أميركي جديد فيها، وبالمصالحة التي تمت بينها وبين السعودية أولاً، ومع المعارضة اللبنانية ثانياً وهي مصالحة شكلية (بوس لحى) على الطريقة العربية، في حين ظلت القضايا العالقة كمقتل الحريري، والمحكمة الدولية، و«حزب الله»، والسلاح في لبنان، والصراع العربي–الإسرائيلي قائمة، لا تغيير لها، ولا تبديل فيها، أما نار إيران فإنها تزداد اشتعالاً يوماً بعد يوم.

3- إذن، فالعراق جار لأهم وأكثر دولتين في المشرق عداء للغرب وعلى رأسه أميركا إضافة إلى جيرانه من الطائفة السُنيَّة، الذين ينظرون إليه ويتعاملون معه سياسياً الآن بحذر شديد وبالقطّارة... نقطة نقطة، لكي يعرفوا تماماً خطواته ونواياه القادمة لاسيما، أن وسط العراق وجنوبه يسيطر عليهما الشيعة وهم على خلاف– مهما قيل من كلام معسول ومجبول بالمحبة الزائفة– عقدي وسياسي وشعبي مع السُنَّة بفضل هذه الجيوش الجرارة من الفقهاء ورجال الدين من الطرفين، الذين يُسعِّرون النار في الطرفين من حين لآخر، خصوصا منذ 11 سبتمبر 2001 وإبريل 2003 إلى الآن.

4- بعد أيام سوف يتوجه العراقيون إلى صناديق الانتخابات التشريعية في 7/3/2010، فهل هذه الخطوة دليل آخر على تحقق الديمقراطية العراقية؟

من المعروف أن فقهاء السياسة وفلاسفتها قد نفوا أن تكون الانتخابات أو صناديق الاقتراع من دلائل التطبيق الديمقراطي الوحيدة. ودليلنا على ذلك أن أكثر الأنظمة العربية دكتاتورية هي الأنظمة التي كانت تتخذ من الانتخابات وصناديق الاقتراع ستاراً يغطي عورة الدكتاتورية الفاضحة والقبيحة. وصدام حسين قبل أن يُطاح به، كان قد أجرى استفتاءً عاماً في العراق، فاز فيه بنسبة 100% أو أكثر وقال له بعض الناخبين «نعم» بدمهم، لا بالحبر الانتخابي!

إن أهمية الانتخابات العراقية في 2005 وفي 2010 هي في قدرة الشعب على التغيير، فتلك هي الديمقراطية.

فالديمقراطية ليست في الصحافة الحرة "مصر" وليست في البرلمانات "الأردن، سورية، السودان، اليمن" وليست في أحزاب المعارضة "مصر، الأردن، سورية، المغرب" ولكنها في قدرة الشعب على التغيير.

فما أهمية انتخاب الحاكم، إذا كان هذا الشعب لا يستطيع تغيير هذا الحاكم؟ وما أهمية الاستفتاء على الدستور، إذا كان الشعب لا يستطيع تعديل أو تغيير مواده؟ وما أهمية انتخاب أعضاء مجلس الشعب أو البرلمان، إذا كان الشعب لا يستطيع إيصال نوابه الحقيقيين إلى البرلمان، ويتم تزوير الانتخابات في كل مرة؟

5- فأهمية ما تمَّ وما سيتمُّ في العراق، هي قدرة الشعب العراقي على التغيير من خلال الاقتراع. تغيير النواب الذين فشلوا في تحقيق ما وعدوا به في عام 2005، تغيير الحكومة التي فشلت في تطبيق خططها الأمنية والاقتصادية والاجتماعية التي وعدت الشعب بها عند استلامها الحكم، تغيير حكم الأغلبية، من أغلبية طائفة دينية معينة إلى تعددية طائفية، مع إلغاء المحاصصة، وجعل العراق لكل العراقيين، والوطن لكل المواطنين.

6- هناك أهمية أخرى لهذه الانتخابات، والعراق يواجه المزيد من التحديدات، والانتخابات القادمة أكبر تحدياته، فالعراق الآن يذهب إلى صناديق الاقتراع، وقد خفَّت عنه كل الضغوط. نقول خفَّت، وليس اختفت، فقد خفَّت عنه الضغوط الطائفية، التي كانت قائمة بعد 2003 مباشرة، وقبل انتخابات 2005، وخفَّت عنه ضغوط الجيران من العرب والعجم، ولم تعد مخاوف هؤلاء من العراق الجديد كما كانت عليه بعد 2003 مباشرة، فالثورة العراقية 2003 مضى عليها حتى الآن قرابة سبع سنوات، وهي تنضج كل يوم على نار هادئة، كأي ثورة شاملة في التاريخ، وفضائلها تُرجَّح على رذائلها كل يوم، وإيجابياتها تزيد على سلبياتها، وخيرها على شرها.

لقد تلاشت تدريجياً آثار الصدمة الكبرى لدى جيران العراق، مما حدث فجر التاسع من نيسان/أبريل 2003، وبدأت نفوسهم تطمئن وأعصابهم تهدأ رويداً رويداً، فالجحيم الذي شاهدوه قادماً من العراق إلى ديارهم، بدأ يتحول تدريجياً إلى سلام وربيع.

7- إن أهم ما تشير إليه الانتخابات التشريعية العراقية في مطلع الشهر القادم، هو قناعة هذا الشعب أن أعداء العراق الحقيقيين ليسوا البعثيين، ولكنهم الإرهابيون من البعثيين والشيوعيين ورجال الدين من كل الطوائف، وكل من حمل السلاح ليحارب الحرية والديمقراطية في العراق. فالخيانة قد تأتي من البعثي، ومن غير البعثي.

* كاتب أردني