ما اشبه الليلة بالبارحة... المنحدر والحرباء!


نشر في 27-10-2009
آخر تحديث 27-10-2009 | 00:01
 د. ساجد العبدلي ما أشبه الليلة بالبارحة...كنت كتبت مقالة منذ خمس سنوات، وبالأمس وقعت بيدي مجددا، فإذا بها لاتزال تصف الحال بعينها، وكأن الأيام لم تمر، وأوراق التقويم لم تتساقط... الهاجس ذاته، والفكرة لاتزال حية نابضة!

يومها كتبت حول أن «المُقلِق» الشاخص دوما والماثل أمام عيني أي كاتب، وأعني بذلك الكاتب الحقيقي صاحب الرؤية والهدف، الكاتب الذي يسعى إلى أن يقدم شيئا مفيدا لمن يقرأ، وأن يغير شيئا من الواقع من حوله نحو الأحسن، هو الحرية... حرية أن ينطلق قلمه في كل الاتجاهات دون الاصطدام بعائق أو الارتطام بمانع.

كل كاتب حقيقي، وسأظل أكرر كلمة حقيقي هذه حتى لا ننسى، أقول إن كل كاتب حقيقي لن يستطيع الكتابة، بل ربما لن يستطيع الحياة إن هي تقلصت مساحات الحرية من حوله، وتكالبت القيود التي تحيط بقلمه، لذلك فالحرية الصحفية ومساحتها هما هاجسه الدائم، لأنهما هاجسه لحياة ذات قيمة.

وفي المقابل، فإن الكاتب القادر على تلوين قلمه حسبما تريد الإرادة العليا، أو على توجيه معانيه حسبما تشير بوصلة من يدفع له الأجرة، لا تعني له هذه الحرية شيئا، لأنه في حقيقة الأمر ليس بكاتب، إنما حرباء متلونة، قادرة على التكيف والتعايش مع كل وضع جديد طالما أن الجيب منتفخ!

لكن، وقبل الشروع في وصف الكاتب الحقيقي الذي لا يعيش إلا في أجواء الحرية، وفي وصف الكاتب الذي لا يهمه هذا، فلعل من الأجدر أولا أن أوضح معنى الحرية في الكتابة، ليتسنى لأي شخص أن يعرض حملة الأقلام تحت هذا الضوء فيحكم بنفسه ويعرف.

حينما أردت البحث عن شيء أشبّه به الكتابة، ما وجدت شيئا يشبهها كالتحليق، تماما، فمثلما يحلق الطيار بطائرته في فضاء الأجواء، يحلق الكاتب بكلماته في فضاء الأفكار، وكما يمكن للطيار أن يطير في كل الاتجاهات، فللكاتب أن يطير بكلماته في كل الاتجاهات كذلك.

ومثلما أن الطيار لا يحلّق إلا ضمن نطاق محدد للارتفاع، لأن كل طائرة تصنع بحيث لا تتجاوز ارتفاعا معينا في العلو، وطيارها يدرك ذلك فلا يعرض نفسه وطائرته للخطر، فكذلك لا يفترض للكاتب التحليق إلا في نطاق محدد من الارتفاع مدركا خطورة التحليق بعيدا عن الارتفاعات (السليمة)، وأن الطيش والتهور والارتفاع إلى خارج النطاق قد يعرضه للخطر، ولا يوصله إلى وجهته!

وكذلك، وهنا الأجمل في هذا التشبيه، ومثلما أن الطيار لا ينحدر بطائرته إلى مستويات منخفضة جدا، حتى لا يصطدم بما على الأرض فيؤذي نفسه وغيره، فكذلك لا ينحدر الكاتب الحقيقي بمستوى كتاباته إلى مستوى المستنقعات، فلا يستخدم الجارح من الألفاظ والسيئ من الكلمات والمشين الخادش للحياء من العبارات، متذرعا بحرية التعبير عن الرأي، حتى لا يصطدم بذائقة القراء.

ليست الحرية الصحفية أن يترك المجال للكاتب أن يشتم هذا ويسبّ ذاك، وليست أن يترك له الحبل على الغارب في أن يشرّق ويغرّب ويزبد ويرغي في كل موضوع بلا حياء أو خجل، إنما هي أن يحلق في كل الاتجاهات منتقدا ومعلقا على ما يشاء ومن يشاء، لكن بموضوعية ودون إسفاف، أما مصطلحات الصحافة الحرة، وإزالة الخطوط الحمراء، وغيرها مما تكرره الببغاوات، فلا تعني أبدا ترك المجال مفتوحا لهذه الحرباوات في التلون والكذب وخداع الناس ولهؤلاء المنحدرين في التطاول على عباد الله وتجريحهم وخدش الحياء ونشر الرذيلة.

استخدموا هذا الميزان، وحينما تجدون أنه قد أتيحت الفسحة الإعلامية لكاتب ما، لسبب ما، فصار يشتم هذا ويسخر مجرحا هذا ويلمز ذاك وذاك، فاعلموا أنه ليس بكاتب حقيقي إنما منحدر حرباء دخيلة، وأن هذه ليست حرية إنما انفلات وانحدار.

back to top