روائح 
ماري كلير

نشر في 29-06-2009
آخر تحديث 29-06-2009 | 00:00
 فوزية شويش السالم يختلف الروائيون في عملية الاشتغال على التقنيات الروائية، وهذا مما يثري عملية الخلق الروائي، فهناك من يشتغل على نسج نقاط متباعدة ومختلفة في الزمان والمكان والتفاصيل والشخصيات المركّبة وذات الأبعاد النفسية الصعبة والمكركبة، وفي ذات الوقت يعمل الكاتب على زيادة تعقيد النص بوضع شخصياته في تقنيات معقدة وعالية جداً، بحيث يصبح نسيج الرواية أكثر وأكثر تعقيداً وصعوبة.

وهناك من لا يشتغل بهذه الطريقة وله أسلوب قد يبدو أكثر سهولة وأكثر بساطة، لكنها في الحقيقة هي بساطة خادعة، صحيح أنها تدور في زمان ومكان محدودين ومن دون تعقيد لا في النص ولا في الشخصيات، بل كل ما في النسيج الروائي ينساب في سهولة وبساطة لذيذة، ولا نستطيع القول أي منهما الأفضل أو الأجدر، لأنها في الحقيقة كلها تعتمد على طبيعة قدرات الكاتب وحجم موهبته وتعامله مع النص.

وهذا الأمر لا يقلل من شأن أي من الطريقتين، فهي قدرات مختلفة، وربما يكون من يكتب رواية متشعبة وذات تراكيب وتقنيات صعبة قد لا يملك القدرة على كتابة رواية تدور حول تلك التفاصيل البسيطة والصغيرة والعابرة في اليوم الذي نعيشه ولا ننتبه إليه.

ومثال على ذلك رواية «روائح ماري كلير» للروائي التونسي الحبيب السالمي، التي تم اختيارها ضمن اللائحة القصيرة للروايات المرشحة لجائزة بوكر العربية، ففي هذه الرواية التي تدور بين رجل وامرأة وتفاصيل حياتهما الحميمة، وهي تفاصيل قد لا ينتبه إليها الكثير من الناس وربما لا يتذكرها أحد لأنها ليست أكثر من تلك الحياة اليومية العادية، ومن هذا المبتذل في عاديته خلق غير العادي وهو هذا النص: روائح ماري كلير، وفي رأيي أنها قدرة غير عادية في كون الكاتب قد استطاع رصد كل هذه التفاصيل اليومية المعاشة ما بين رجل وامرأة بهذه الدقة وهذه الحميمية، وهذا التمكن من الغوص في هذه التفاصيل الصغيرة وفضّها «وفصفصتها» وتفكيكها وتأمل فتافيتها، وإعادة خلقها في عالم روائي محكم جعل أحداثا عادية رواية ممتعة وضعت مجهرها لتكبير وفضح هذه العلاقة الخاصة جدا، والتي تدور فقط ما بين امرأة ورجل وعالمهما الحميم.

لا توجد أحداث درامية حادة في هذه الرواية، لأنها صورت هذه الحياة العادية التي تدور ما بين المئات من الأزواج أو العشاق من بداية اشتعال العلاقة إلى لحظة انطفائها وموتها، لكن كيف استطاع الحبيب السالمي أن يشتغل منها هذا النص الحي والحيوي الذي تابع التفاصيل اليومية منذ لحظة الاستيقاظ من النوم إلى الاغتسال والإفطار والتمدد على الأريكة، ولحظات الصحو ولحظات النوم، ولحظات العتب ولحظات الصلح، كلها خلق منها معزوفة رقيقة مشغولة برقة الحياة الإنسانية التي لا ندرك قيمتها إلا في حال زوالها.

الحبيب السالمي نحت هذه الحياة ونفخ فيها الروح، حتى انبعثت فينا كل ذكرياتنا المنطفئة، والتي ربما لم نحسن تقييمها ولم ندرك قيمتها، فالحياة ليست أكثر من هذا المعاش اليومي الذي ينزلق منا من دون أن نحتفل بعيشه.

ومن شدة رسمه ونحته لشخصية ماري كلير بحركاتها وإيماءاتها وتمطّيها وتثاؤبها وفرحها وغضبها وإغوائها وحركات جسدها وشعرها، جعلنا نراها ونحسها ونشاركه حتى في روائحها، وهذه هي كتابة الجسد التي تنتقل عن مشاركة الحواس كلها في كتابة النص، حينها فقط يشعر القارئ بما كتبه الكاتب، وهذا سر وصفة الكتابة الجيدة. 

back to top