هناك شبح يطارد أوروبا: إنه شبح "ثقة السوق"، ولعل الخوف من الشيوعية هو الذي هيج مشاعر الحكومات عندما دوَّن كارل ماركس سطر الافتتاح في بيانه الشهير (المانيفيستو) في عام 1848، أما اليوم فإن الرهبة من انقلاب مشاعر السوق ضد الحكومات على النحو الذي قد يدفع الفوارق في أسعار السندات الحكومية إلى الارتفاع.

Ad

فقد اضطرت الحكومات في مختلف بلدان العالم إلى التقشف المالي قبل الأوان، رغم أن معدلات البطالة لا تزال مرتفعة للغاية ورغم أن الطلب من جانب القطاع الخاص لم يظهر إلا أقل القليل من علامات الحياة. كما اضطر العديد من المسؤولين إلى التعهد بإصلاحات بنيوية لا يؤمنون بفعاليتها حقاً، لمجرد أن الأمور سوف تبدو بالغة السوق في نظر الأسواق إذا فعلوا أي شيء غير ذلك.

إن الإرهاب المتولد عن مشاعر السوق كان ذات يوم من اللعنات المرتبطة بالبلدان الفقيرة فقط، ففي أثناء أزمة ديون أميركا اللاتينية في ثمانينيات القرن العشرين، أو الأزمة المالية التي ضربت آسيا في عام 1977، على سبيل المثال، كانت البلدان النامية المثقلة بالديون تعتقد أنها ليس لديها سوى خيارات ضئيلة غير ابتلاع الدواء المر، أو مواجهة فرار رأس المال إلى الخارج. ومن الواضح الآن أن الدور قد حان بالنسبة لإسبانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، ويزعم العديد من المحللين أن الولايات المتحدة أيضاً سوف تلحق بهذه البلدان.

فإن كنت تريد الاستمرار في اقتراض المال فلابد أن تقنع الجهة المقرضة بأنك قادر على السداد، وهذا أمر واضح، ولكن في أوقات الأزمات، تأخذ ثقة السوق مساراً خاصاً بها، فتتحول إلى مفهوم دقيق خاو من المضمون الاقتصادي الحقيقي، أو تتحول إلى ما يطلق عليه الفلاسفة "البناء الاجتماعي"، أو شيء ليس حقيقياً إلا لأننا نعتقد أنه كذلك.

فإذا كان المنطق الاقتصادي يتسم بمعالم واضحة فإن الحكومات لن تضطر إلى تبرير ما تفعله على أساس ثقة السوق، بل سوف يكون من الواضح أي من السياسات قد ينجح وأيها قد يمنى بالفشل، وكانت عملية ملاحقة السياسات "السليمة" لتشكل الوسيلة الأكثر ضماناً لاستعادة الثقة، وبهذا تصبح مسألة السعي إلى اكتساب ثقة السوق زائدة عن الحاجة. لذا، فإن كان لتعبير ثقة السوق أي معنى فلابد أن يكون شيئاً لا يمكن تحديده ببساطة من خلال الاستعانة بالعوامل الاقتصادية الأساسية. ولكن ما حقيقة الأمر إذن؟

في بيانه الشيوعي ذهب ماركس إلى القول إن "الوقت قد حان كي ينشر الشيوعيون وجهات نظرهم وأهدافهم وميولهم علناً في مواجهة العالم أجمع، وأن يواجهوا خرافة شبح الشيوعية ببيان صادر عن الحزب ذاته". وعلى نحو مماثل سوف يكون من الظريف أن توضح الأسواق ماذا تعني بـ"الثقة" حتى يعرف الجميع مع أي شيء يتعاملون.

بطبيعة الحال، من غير المرجح أن تفعل "الأسواق" أمراً كهذا، وهذا ليس فقط لأن الأسواق تتألف من عدد كبير من المستثمرين والمضاربين الذين من غير المرجح على الإطلاق أن يجتمعوا على نشر "برنامج حزبي"، بل لأن الأسواق من منظور أكثر جوهرية ليس لديها إلا أقل القليل من الأدلة التي قد تستعين بها في توجيه نفسها.

إن قدرة الحكومات على سداد أقساط ديونها تعتمد على عدد لا نهائي تقريباً من الحالات الطارئة الحاضرة والمستقبلية، فهي لا تعتمد على الخطط الخاصة بالضرائب والإنفاق فحسب، بل إنها تعتمد أيضاً على حالة الاقتصاد، والظروف الخارجية، والسياق السياسي. وكل ذلك من الأمور التي تتسم بقدر هائل من عدم اليقين، ويتطلب العديد من الافتراضات للوصول إلى شكل من أشكال الحكم على الجدارة الائتمانية.

واليوم يبدو الأمر وكأن الأسواق تتصور أن العجز المالي الضخم يشكل التهديد الأعظم لقدرة الحكومة على سداد ديونها، وغداً قد تتصور الأسواق أن المشكلة الحقيقية تكمن في تدني معدلات النمو، فتتأسف على السياسات المالية المحكمة التي ساعدت في تدني معدلات النمو.

واليوم تخشى الأسواق الحكومات المترددة غير القادرة على اتخاذ التدابير الصارمة اللازمة للتعامل مع الأزمة، ولعلها غداً تُحرَم من النوم بسبب المظاهرات الحاشدة والصراعات الاجتماعية التي قد تتولد عن السياسات الاقتصادية الصارمة.

إن القليل من الناس ربما يكون بوسعهم التكهن باتجاه مشاعر السوق، وأقلهم قدرة على ذلك هم المتعاملون في السوق أنفسهم. وحتى مع استرجاع أحداث الماضي ففي بعض الأحيان لا يكون من الواضح لماذا سلكت الأسواق مساراً بعينه وليس غيره، ذلك أن سياسات متماثلة قد تؤدي إلى ردود أفعال مختلفة من قِبَل الأسواق المختلفة اعتماداً على السرد السائد، أو حتى بدعة لحظية، ولهذا السبب فإن توجيه الاقتصاد من خلال ما تمليه ثقة السوق ليس أكثر من فكرة حمقاء. بيد أن العزاء في كل هذا هو أن الأسواق، على النقيض من خبراء الاقتصاد والساسة، لا تتبنى أي إيديولوجية، فمادامت قادرة على صنع المال فإنها لا تتورع عن التراجع عن تعهداتها، فهي ببساطة تستعين بكل ما "يعمل"- كل ما قد يسفر عن بيئة اقتصادية صحية تساعدها في سداد ديونها- إذا كان البديل هو الفوضى وشبح تكبد خسائر أعظم.

وهذا من شأنه أن يتيح للحكومات بعض الحيز للمناورة، فهو يسمح للقادة السياسيين الواثقين بأنفسهم بالتحكم في مستقبلهم، وهو يسمح لهم بصياغة السرد الذي يؤسس لثقة السوق، بدلاً من محاولة اللحاق بالركب.

ولكن من أجل الاستفادة من حيز المناورة هذا فإن صناع القرار السياسي لابد أن يعملوا على تقديم سرد متماسك وجدير بالتصديق لتصرفاتهم، استناداً إلى الأسس الاقتصادية القوية والسياسات السليمة، ويتعين عليهم أن يقولوا: "نحن نفعل هذا ليس لأن الأسواق تطالب به، بل لأنه أمر مفيد بالنسبة لنا، وإليكم الأسباب".

ولابد أن يكون سردهم مقنعاً لناخبيهم، فضلاً عن الأسواق، وإذا نجحوا في هذا فسوف يكون بوسعهم أن يلاحقوا أولوياتهم وأن يحتفظوا بثقة السوق في الوقت عينه.

وهنا تفشل الحكومات الأوروبية (إلى جانب مستشاريها الاقتصاديين) دوماً في أداء هذه المهمة، فبدلاً من مواجهة التحدي، يماطل الزعماء أولاً ثم يخضعون تحت الضغط، ثم تنتهي بهم الحال إلى الهوس بتصريحات محللي الأسواق، وبهذا يحرمون أنفسهم من السياسات المرغوبة اقتصادياً والتي تحظى بفرصة أعظم لكسب التأييد الشعبي.

وإذا تفاقمت الأزمة الحالية سوءاً فإن الزعماء السياسيين هم الذين يتحملون المسؤولية الأساسية عن ذلك، ليس لأنهم تجاهلوا الأسواق، بل لأنهم بالغوا في أخذ الأسواق على محمل الجد.

* داني رودريك ، أستاذ الاقتصاد السياسي بكلية جون ف. كينيدي للدراسات الحكومية بجامعة هارفارد، وهو أول متلق لجائزة ألبرت و. هيرشمان التي يقدمها مجلس بحوث العلوم الاجتماعية، وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان "اقتصاد واحد وصفات متعددة: العولمة، والمؤسسات، والنمو الاقتصادي".

"بروجيكت سنديكيت" بالاتفاق مع "الجريدة".