إن الحرب التي تخوضها أميركا في أفغانستان تقترب من نقطة اللاعودة، مع تنامي الشكوك حول استراتيجية الرئيس باراك أوباما. ولكن رغم ذلك، وبعد إرسال 21 ألف جندي إضافي إلى أفغانستان، يفكر أوباما في إرسال 14 ألف جندي آخرين.
لابد أولاً من توضيح أمر ما: إن الحرب الأميركية الأفغانية ليست بالحرب التي يمكن لأي طرف أن يخرج منها منتصراً، وذلك رغم أن أوباما أعاد تعريف الأهداف الأميركية، من إلحاق الهزيمة بحركة «طالبان» إلى منع تنظيم «القاعدة» من استخدام أفغانستان كقاعدة لشن الهجمات على الولايات المتحدة. بيد أن حركة «طالبان» لم تعد تشكل عاملاً خطيراً في الحرب الأفغانية، حيث أصبح الطرفان المتقاتلان الرئيسيان الآن هما القوات الأميركية وحركة «طالبان»، إلى جانب الميليشيات والجيوش الخاصة التابعة لها. وبدلاً من السعي إلى إلحاق الهزيمة بحركة «طالبان»، عمدت الولايات المتحدة إلى تشجيع الاستخبارات الباكستانية والأفغانية والسعودية إلى عقد مفاوضات بالوكالة مع القيادات العليا لحركة «طالبان»، التي تختبئ الآن في مدينة كويتا الباكستانية وتتحصن بها.إن الولايات المتحدة تخوض الحرب الخطأ. فبعد أن دفع الغزو الأميركي زعماء «القاعدة» إلى الخروج من أفغانستان، برزت باكستان باعتبارها القاعدة الأساسية والملاذ الرئيسي للإرهابيين من جنسيات متعددة. ويأتي الدعم والعون لحركة «طالبان» والعديد غيرها من الجماعات الأفغانية المقاتلة من داخل باكستان أيضاً. ورغم هذا فإن أوباما يواصل سياسة زيادة القوات العسكرية في أفغانستان، ولكن في الوقت نفسه زيادة المساعدات إلى باكستان، التي أصبحت الآن صاحبة النصيب الأعظم في المساعدات الأميركية على مستوى العالم.إن الولايات المتحدة لا تحتاج إلى حشد القوات لكي تلحق الهزيمة بتنظيم «القاعدة»- وليس في أفغانستان بكل تأكيد. فمن دون قوة برية ضخمة أو حتى عمليات برية كبرى على الأراضي الأفغانية، تستطيع الولايات المتحدة أن تحاصر فلول «القاعدة» في ملاذاتها في المناطق القَبَلية الجبلية في باكستان من خلال العمليات السرية، والطائرات العاملة من دون طيار، والهجمات بصواريخ كروز. أوليس هذا ما تقوم به وكالة الاستخبارات المركزية الآن بالفعل؟الواقع أن الخبراء التابعين لأجهزة الاستخبارات في الولايات المتحدة يعتقدون أن تنظيم «القاعدة» أصبح يعاني الانقسام الشديد بالفعل ولم يعد في وضع يسمح له بتحدي المصالح الأميركية على نحو صريح. ويقول أحدث تقييم سنوي للتهديدات والذي أصدرته جمعية الاستخبارات في شهر فبراير الماضي: «... ونظراً للضغوط التي نمارسها نحن وحلفاؤنا على القيادات الرئيسية لتنظيم [القاعدة] في باكستان... فقد أصبح تنظيم [القاعدة] اليوم أقل قدرة وفعالية مما كان عليه قبل عام واحد».لو كان هدف أوباما يتلخص في دحر «طالبان» وكسر شوكتها لكان من المنطقي أن يرسل المزيد من القوات العسكرية إلى أفغانستان، وذلك لأن إلحاق الهزيمة بحركة «طالبان» التي عادت إلى الحياة هناك لن يتسنى إلا من خلال عمليات عسكرية برية كبرى، وليس عن طريق غارات القصف الجوية والعمليات السرية فقط. ولكن إن لم تكن حركة «طالبان» هي هدف الإدارة الأميركية الرئيسي من هذه الحرب، بل فلول «القاعدة»، فما الداعي إلى استخدام استراتيجية تعتمد على كثافة القوات وعلى حماية المراكز السكانية لكسب الدعم الشعبي؟ الحقيقة أن ما تطلق عليه إدارة أوباما استراتيجية «الوضوح، والسيطرة، والبناء» هي في الواقع استراتيجية «الحشد، والرشوة، والفرار» ـ غير أن الطبيعة المشوشة لهذه المهمة وتورط الولايات المتحدة على نحو متزايد من شأنهما أن يقوضا عنصر «الفرار».يتعين على أوباما قبل أن تتحول أفغانستان إلى مستنقع على غرار فيتنام أن يعيد النظر في خطته الرامية إلى زيادة عدد القوات هناك. والمنطق السليم يدعو إلى تخفيض مستوى وجود القوات الأميركية بالتدريج، وذلك لأن ما يجمع بين العناصر المتباينة التي تتألف منها حركة «طالبان» ويوحدها هو المعارضة الشديدة للوجود العسكري الأجنبي على أرض أفغانستان.إن خروج القوات العسكرية الأميركية من أفغانستان لن يشكل دعماً معنوياً لقوات الجهاد العالمي كما يخشى العديد في الولايات المتحدة. بل إن الأمر على العكس من ذلك، فالخروج من شأنه أن يزيل العنصر الذي يوحد «طالبان» ويطلق العنان لتطورات لن يتجاوز تأثيرها النطاق الداخلي أو الإقليمي- صراع شرس على السلطة في أفغانستان على طول الخطوط الطائفية والعرقية.ولا شك أن «طالبان»، بدعم قوي من المؤسسة العسكرية الباكستانية، ستحاول الاستيلاء على كابول من أجل إحكام قبضتها على السلطة كما حدث في عام 1996. ولكن هذه المهمة لن تكون سهلة، ويرجع ذلك جزئياً إلى تشرذم حركة «طالبان»، حيث يتحكم الذيل (الجيوش الخاصة والميلشيات) بالرأس.فضلاً عن ذلك فإن القوات غير الموالية لـ»طالبان» أو قوات الباشتون أصبحت اليوم أعظم قوة، وأكثر تنظيماً، وأفضل استعداداً، عما كانت عليه حالها في عام 1996، لمقاومة وصد أي زحف نحو كابول، وذلك بعد تمكينها بفضل الاستقلال الإقليمي أو بفضل المناصب التي مازالت تشغلها في الحكومة الفيدرالية الأفغانية. ومن خلال الاحتفاظ بقواعد في أفغانستان لتنفيذ العمليات السرية وشن الغارات الجوية، فسيكون بوسع الولايات المتحدة أن تطلق العنان لقوة تأديبية قادرة على منع «طالبان» من الاستيلاء على الحكم. ولا ينبغي لنا أن ننسى أن القوة الجوية الأميركية، مقترنة بالعمليات البرية التي قادتها قوات التحالف الشمالي، هي التي أطاحت نظام «طالبان» في عام 2001.الواقع أن النتيجة الأكثر ترجيحاً لأي صراع على السلطة ناتج عن الانسحاب الأميركي ستتلخص في إضفاء الطابع الرسمي على التقسيم الحالي الذي يفرض نفسه على أرض الواقع في أفغانستان على طول الخطوط العرقية- وهو الاتجاه الذي يسلكه العراق أيضاً.وبموجب هذا السيناريو فإن الأقليات العرقية في أفغانستان، مثل الطاجيك والأوزبيك والهزارة وغيرها، ستكون قادرة على ضمان الحكم الذاتي في المناطق الأفغانية التي تسيطر عليها، وبهذا تُـترك أراضي الباشتون على جانبي خط تقسيم ديوراند البريطاني لكي تتخمر. وبفضل الاستقطاب العرقي، فإن خط ديوراند، أو الحدود الأفغانية الباكستانية، لا وجود له اليوم إلا على الخرائط. وعلى أرض الواقع فإن هذا الخط لا يشكل أهمية سياسية أو اقتصادية تذكر، ومن غير العملي عسكرياً أن نعيد فرض ذلك الخط الآن.وكما هي الحال في العراق فإن الانسحاب الأميركي من شأنه أن يطلق العنان لقوى التقسيم (أو البلقنة). وقد يبدو هذا مثيراً للانزعاج والقلق، ولكنه في النهاية قد يشكل عاقبة حتمية للغزو الأميركي.إن الانسحاب الأميركي من شأنه في الواقع أن يساعد في مكافحة الإرهاب الدولي. فبدلاً من البقاء في مستنقع أفغانستان والسعي إلى إقناع ورشوة المؤسسة العسكرية الباكستانية بإنهاء دعمها للمتشددين الإسلاميين، فستتمتع الولايات المتحدة بالحرية في ملاحقة استراتيجية أوسع نطاقاً وأكثر توازناً في مكافحة الإرهاب. على سبيل المثال، ستتمكن الولايات المتحدة من تقدير وتقييم المخاطر التي تفرضها جماعات إرهابية باكستانية- مثل «عسكر طيبة» و»جيش محمد»- على الأمن الدولي.إن التهديد المتمثل في احتمالات استيلاء الإسلاميين على السلطة في باكستان لا يأتي من جهة «طالبان»، بل من الجماعات التي استمدت التأييد لمدة طويلة من الجيش الباكستاني كجزء من تحالف قديم بين المؤسسة العسكرية والملالي. وهذه هي النقطة التي ينبغي للقتال أن يتركز حولها.* براهما تشيلاني | Brahma Chellaney ، أستاذ الدراسات الاستراتيجية في مركز أبحاث السياسات في نيودلهي، وزميل أكاديمية روبرت بوش في برلين، ومؤلف تسعة كتب، منها "الطاغوت الآسيوي"، و"المياه: ساحة المعركة الجديدة في آسيا"، و"المياه، والسلام، والحرب: مواجهة أزمة المياه العالمية".«بروجيكت سنديكيت، 2016»»بالاتفاق مع «الجريدة»
مقالات
أهو المخرج الاخير من كابول؟
12-11-2009