نسمع صدى صيحته

نشر في 16-03-2010
آخر تحديث 16-03-2010 | 00:00
 لمى فريد العثمان لا نعزِّي أنفسنا برحيل رائدٍ من رواد نهضتنا الثقافية د. فؤاد زكريا... فأفكاره حيَّة تعيش بيننا... لكن نعزِّي أنفسنا بالموت الإكلينيكي للعقل في مجتمعاتنا، تلك الغيبوبة التي أحيت دُعاة الجهل والخرافة الذين تقدموا إلى الصفوف الأولى، بإزاحتهم العقلانية وتشويههم النزعة الإنسانية في الفترة التنويرية الإسلامية، فأصبحوا يقودون الأمة المُغيَّبة التي لم تسمع الصرخات والتحذيرات المُبكرة لمفكرينا منذ السبعينيات والثمانينيات، لأن آذانها كانت مشغولة بقشور "الصحوة المزعومة"، التي يعتقد أستاذنا أنها لم تكُن إلّا رِدَّة حضارية "أخضعت الواقع الحالي للتراث"، فانشغلت بالماضي كما انشغل العالم المُتحضِّر في علم المستقبل واستشرافه، لتصبح الهوة سحيقة يصعب ردمها.

لن ننسى دور د. فؤاد زكريا في النهضة الثقافية بالكويت، ذلك المفكر الذي ألَّف وترجم أعمالاً فلسفية قيِّمة، كما أسَّس السلسلة الأكثر شهرة: "سلسلة عالم المعرفة" الكويتية، التي قدّمت أبحاثاً فكرية مُستنيرة، فكان حريصاً رحمه الله، كمستشار تحريرها، على أن تلتزم القيم العلمية والأخلاقية التي بُنيت عليها.

يقول الراحل في حوار حديث عن تجربته في العيش بالكويت فترة طويلة: "كانت تجربة خصبة جداً لعدة أسباب، في مقدَّمها ذلك القدر الكبير من حرية الرأي الذي كان موجوداً في الكويت وقتها، ورغم أنني كنت أكتب في الصحف باستمرار، فإنه لم يحدث ولو مرة واحدة، أن تدخلت أيُّ جهة في كتاباتي أو حاول أحدٌ تغيير حرف ممّا أكتبه، كذلك كانت قدرتي على التعبير عن نفسي بأوضح طريقة ممكنة".

لقد كان لمفكرينا الليبراليين دور أخلاقي مشع في محاولاتهم تنوير العقول، كما في مواقفهم المشرفة ضد الغزو العراقي، كدور معلمنا الراحل الذي حارب ببسالة التيارات القومية والإسلاموية ضد مواقفها المُخذِلة من الظلم والعدوان، لترجع تلك التيارات بعد هذه النكسة الأخلاقية أكثر قوةً في تزييف الوعي الجمعي، ولو أدرك هذا العقل المُقيَّد بسلاسل التعصب المُعَوِّقة لكل تقدم، ما يقوله هؤلاء التنويريون، لما عانت المجتمعات داء الطائفية، وهيمن تجار الدين ومشايخ الألفاظ البذيئة ومشاهير الدُّعاة، الذين وصف أحدهم الليبراليين بعدم ممانعتهم "أن يتزوج الرجل أخته أو أمَّه أو ابنته"! هؤلاء الأصوليون رغم استهلاكهم كلَّ ما تنتجه الليبرالية يتعالون عليها ويتبجَّحون، وفي نفس الوقت يصمتون صمت القبور إزاء الجرائم الإرهابية وفتاوى التحريض على القتل.

يُرجِع د. زكريا صعود التيار الأصولي المُتطرف إلى أسباب مختلفة، كمرض الطاعة العمياء الذي يزرع في النفوس الخنوع بدءاً من البيت والمدرسة، فالمؤسسات الاجتماعية، بالإضافة إلى غياب التفكير العلمي، المعني بالبُسطاء كما العلماء، ليصبح أسلوب حياة يعين الإنسان في كل شؤون حياته، والتفكير العلمي لا يقتضي تحصيل الشهادات العليا فحسب، فالكثير من حامليها في مجتمعاتنا يعتمدون على التفسير الجاهز للظواهر والكوارث، بينما يعتمد التفكير العلمي المنظم على طرائق التفكير الحر المنطقي.

يقول د. فؤاد زكريا إن "الإحياء الحقيقي للتراث إنما يكون عن طريق تجاوزه، واتخاذه سلماً لمزيد من الصعود، أما تراث الاسترجاع فهو قضاء على التراث".

هي كما عبّر الكواكبي "كلمات حقٍ وصيحةٌ في واد، إن ذهبت اليوم مع الريح، قد تذهب غداً بالأوتاد".

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة

back to top