آخر وطن عندما يحكم الصيف!!


نشر في 17-07-2009
آخر تحديث 17-07-2009 | 00:01
 مسفر الدوسري يوم صيفي حار، يُلهِب الجسد ويحرق المشاعر.

تخترق أشعة الشمس خلايا الجسم لتصل إلى الأعماق، فتُبخّر الندى من على أوراق العواطف لتجففها، وتجعلها سوداء إثر الاحتراق، ويمر «السموم» فاتحا فمه المُعبَّأ بالنيران كتنين هائج على الأغاني المخبأة بين الأوردة، وينتزعها من جداول الماء التي غُرست فيها كالأعشاب، ليجعل هذه الأغاني رمادا منثورا، ويجعل الجداول مجرد خطوط متعرجة جافة شهباء تموت فيها الرغبات.

تحاول اليابسة الفرار إلى البحر لتخفِّف وطأة الحر الشديدة، والبحر يهرّب مياهه إلى أعلى في صناديق البخار، والبخار ينتظر على أحر من الجمر قطار الريح السريع ليأخذه إلى أقرب محطة باردة، لينزل مطرا بعيدا عن حدود الصيف!!

الصيف ينفّر الكل من... الكل، وينفّر الفرد من... ذاته، فيتمنى لو أنه قادر على الهروب من جلده.

في الصيف لا تعود الصباحات حالمة، أو محرضة على الحب وممارسة متعة الحياة، فالطيور تركن إلى شبه ظلٍّ قد تجده في شجرة هنا، أو تحت جدار هناك، بدلا من الطيران في الفضاء جيئة وذهابا، مرفرفة بأجنحتها ذات الريش المختلف الألوان بفرح، ناشرة أناشيدها وموسيقاها الخاصة مجانا لكل من يريد أن يصغي، لكن الصيف يحرم الحياة هذه البهجة، ويحشر الطيور في زوايا بحثا عن الظل، فصباح الصيف الأحمق يصادر الفضاء من عيون العصافير!

وربما تبدو مساءات الصيف مخادعة بعض الشيء، ولابد لها أن تكون كذلك لتمنع الانفجار، عن طريق إضفاء نوع من البهجة المفتعلة التي تزيّنها ليالي السمر، لكن هذه البهجة قصيرة جدا، نظرا إلى قصر الليل في هذا الفصل... مهما طال!

كما أن مساءات الصيف مخادعة لأنها ليست جميلة بذاتها... لكن فقط مقارنة بنهارات الصيف الظالمة!

الصيف أيضا يضيّق حدود الأماني، ويقزّم الطموح، فتصبح مجرّد رؤية سحابة عابرة مدعاة للفرح والاحتفاء، ومغرية لرقص الطفولة، أما قطرة المطر فهي ضرب من المستحيل، وحلم كسيح بلا رعاية.

كما أن الصيف الكريه يعرّي الأرض، ويمسح ماكياجها، وينتزع رموش عينيها ويسرق منهما البريق، ويجرّح وجهها الجميل بشقوق قبيحة، ويجفف بشرتها، ويجعل شفتيها ناشفتين متشقّقتين.

عندما يحكم الصيف، ترتبك الحياة، وتحاول الخروج من نسقها الجميل، ويسود التوتر ويتحكم بزمام الأعصاب، فتكثُر الشجارات التي تكون غالبا بلا سبب واضح، وتصبح «النرفزة» هي المناخ السائد لأي حوار.

الصيف هنا في بلادنا غبيّ، ولأنه كذلك فهو يسيّد... السراب!

وهذه أكبر خطايا الصيف.

فالسراب... كذبة الصيف الوقحة!

يتلاعب السراب بأحلام الظمأ، ويعزف على أوتار مشاعره وحاجته إلى الارتواء، ثم يمد لسانه في وجهه هازئا، ومستخفّا بعواطفه البريئة.

السراب لا يملك قلبا عطوفا، ولا حضنا حانيا، يفرش الأفق بالوعود، ثم يدوس بكل جبروت وشراسة على قلوب من صدّق تلك الوعود وتبعه.

في الصيف يصبح السراب سيّد النظر والمنظر، فيوزّع قطعانه «المائية» اللون على مساحات كثيرة من المدى ومن المشهد البصري، وتطاردها الأعين العطشى محاولة اصطيادها فلا ولن تستطيع!

السراب... خطيئة الصيف التي لا تُغتفر، وأسوأ مظاهر حكمه!

back to top