جناح المعرفة الالكتروني
مصادر المعرفة في الغرب أصبحت تأتيك على جناحٍ إلكتروني: شبه مجانية، في متناول اليد، ومغرية. الكتاب يأتيك بتلفون أو بإيميل، والمعلومة تأتيك بثوانٍ على الشاشة. وإذا أتعبتْ القراءةُ عينيك، فلك الكتابُ المقروء. تستريحُ على وسادة وتسمع. وإذا أردتَ أن تجددَ فتوة طالب الدرس فيك فلك أن تدعْ محاضرات الأستاذ المختص تأتيك إلى غرفتك، بوساطة الإنترنت، أو بواسطة «DVD» مرئي ومسموع.
على أن هذه الفضيلة الغربية لم تعد تقتصر على الغرب والغربيين، فالمثقفُ العربي قادر على ذلك حيث يكون.، المثقفُ العربي يملك أن يهاتف، ويتوسط الإنترنت، ويتسلّم في البريد، وهو أحوجُ من غيره، من أبناء شعوب هذه الأرض، إلى ذلك. ولكن هذا يُحوجُ المثقفَ العربي إلى أمرين: معرفة اللغة الإنكليزية الأكثر شيوعاً من بين لغات الحضارة الحديثة، والرغبة الحقيقية في المعرفة. وكلا الأمرين داخلي، يتعلّق بتوجه الإرادة. وهنا حجرُ المحك. فإلى اليوم لا يُعتبر العربُ من بين الشعوب المتعافية في علاقتها بالكتاب، ولا المتقدمة في الترجمة، بل العرب، ترى «اليونيسكو»، في أدنى السلم. والترجمةُ إلى العربية على فقرها، خاصة في حقل الثقافة الأدبية، بالغةُ التعجّل، والرداءة، أما توجه الإرادة فقد أصابه الانحراف منذ الستينيات، مرحلة سيادة فكرة الثورة، وعسكرتها، على الحياة والعباد، ففي النشاط الثقافي لم يعد الكتاب مصدراً ومعياراً، بل حلّ محلّه المهرجانُ الرسمي، ووسائلُ الإعلام الرسمية. في الجانب المتعافي من عالمنا، يملك الراغبُ في المعرفة أن يحققَ عزلةَ الجزيرة المهجورة، في اصطحابه جهاز الحاسوب، الموصول بالإنترنت. معه يملك أن يقرأَ، ويكتبَ، ويستحضرَ المصادر، ويجهّز دائرةَ المعارف، ويفتحَ القاموس، وإذا شاء استراحةً خفيفةً يُطل فيها على العالم، فله أن يصغي إلى الراديو، أو يشاهد التلفزيون، حيث يكونا، وإذا فضّل استراحةً عميقة انتقل بلمسة إصبع إلى الموسيقى، ينتخب منها ما يليق بحالته النفسية والعقلية. وله، إذا أراد أن يخرج من دائرة الدرس، إلى دائرة العشرة فليس أيسر من مكاتبة الآخر أو مهاتفته، حيث يكون. لطالب المعرفة يصبح جهازه الصغير هذا «أثينا سقراط» بين يديه، ولكن ما الذي يصبحُ عليه بين يدي صاحب التوجه المنحرف؟يحلو لي في أحيان كثيرة أن أنتسب إلى هذه الجزيرة المهجورة، فلا تُحوجُني صحبةُ الحاسوب والانترنت إلى أكثر من متر مربع واحد، فيه أكثرُ من متسّع للشاعر إذا ما استيقظ بي. ولأني كنت أحلم دائماً بالتأليف الموسيقي، فليس عسيراً على المخيلة من استبدال مفاتيح الأحرف بمفاتيح البيانو، والشروع بالعزف، الأمرُ الذي يعزز ولعلي بربط الشعر بالموسيقى. وقد تُحفّزني قدراتُ الإنترنت إلى التوجه إلى قلب الموسيقى: ولتكن «موسيقى ليلية» لموتسارت مثلاً. أو حركة بطيئة من «سوناتا» البيانو الأخيرة لبيتهوفن!وإذا ما استيقظ الناثر بي، فلهذا الجهاز ألفُ استجابة، أقرأُ النص، وأنتخبُ الشواهد، وأُدرجُها في ملفات، قد أسعى إلى ترجمتها، مستعيناً بالقاموس، أو أُفردها في ألوان متمايزة، وفق مواضيعها. وهناك معارض الرسم في عالم الفن، وعروض الدراما، والسينما، والمحاضرات، والندوات، كلها متحفّزة، وعلى أهبة الاستعداد لمكافأة تطلّعاتك (حتى لو كانت غير متعافية!). آخر ما اكتشفتُ (لا آخر ما استُجد) هو هذا المشروع العجيب للدورات الدراسية، الذي بدأ منذ سنوات، تنوّع التخصصات مُعززةٌ بأرفع الأساتذة الأكاديميين. من حقل العلوم جميعاً، مروراً بالأدب، والفلسفة، والدين، والتاريخ، والفن، وانتهاءً -إذا كان في حقول المعرفة نهاية- بدرس الحياة العملية. قرابة 300 حقل معرفي تحت عنوان: «The Great Courses»، وكل دورة تتسع لأربع وعشرين محاضرة حتى ثمانٍ وستين. وزمن المحاضرة نصفُ ساعةٍ، أو ثلاثة أرباع الساعة. مُعبّأة جميعاً في أقراص «DVD»، أو «CD»، وفضيلة الإنترنت ليست بمنأى، فلك أن تُحمّل جهازك بالدورة المطلوبة بدقائق. ولأني لم أختر بعدُ عزلةَ الجزيرة المهجورة، صرتُ أسعى إلى شراء الدورات الدراسية على «DVD»، أمام شاشة التلفزيون الواسعة، متربعاً على المقعد أو مضطجعاً، أبدأ ساعةَ الدرس بكل نباهة التلميذ الجامعي.