نحو النهاية في الصليبيخات
يلتف طريق الأسفلت الضيق ويتعرج، وأسير فوقه أو أسير معه، فأنا ذاهب لتقديم واجب العزاء لقريب أو صديق، لا تهم صفته، وإنما الطريق يسير بسرعة، وأتأمل على يميني ويساري شواهد القبور، بعضها محا الزمن أثرها، وبعضها مازالت أسماء القابعين تحت الثرى ظاهرة، كلها تسألني عن معنى الحياة وجدوى الوجود. أسير بالسيارة، وبرأسي تدور الذكريات... مررت، على الزمن، أم الزمن يمر علي، لا أدري...؟ تلك مقابر الشيوخ على اليمين، وبعدها مقابر الشهداء، وأسير تحيط بي شواهد القبور من كل صوب... لم يعد للمكان معنى... هو الزمن... هو الدهر... هؤلاء توفوا في الستينيات... وهؤلاء في السبعينيات... في الثمانينيات ولا بداية ولا نهاية... ثم ماذا بعد...؟! يمضي الزمن ويترك شهوده على لحظة الحياة وبرهة الرحيل. أتمهل في قيادة السيارة، ربما في هذا "مكان الزمن" قبر والدي، وأتذكر أبيات شعره البسيطة "... مضى تسعون من عمري... كأني لم أكن بها أدري... أيوم مر أو ساعة أم أحلام بها أجري... فيا مولاي وفقني لما ترضاه في أمري..."، وعسى الله أن يوفقه لما يرضاه من أمره.
تظل شواهد القبور تحدثني عن الزمن... تخاطبني بلغة من جوفي عن لحظات فرح ولحظات حزن مضت كلها، رحلت وطواها الزمن. هذا قبر فايز المطوع... ملأ حياتي بفرح كبير بعفويته وجموحه... قربه يرقد صديقي الفنان راشد الخضر، مات شاباً يافعاً... وترك لنا "يا نار شبي من ضلوعي حطبك"، وولع الزمن نار الفناء الدائمة من ضلوعه خشبها... ومات في لحظة سهو... وهذا قبر فلان وهذا قبر أمي... وهذا قبر رجب أمين، الذين أعرفهم ممن رحلوا أكثر من بقوا... رحلوا جميعاً من دون سابق إنذار... هل أقول رحلهم القدر الى زمن آخر أم الى العدم؟! لا أدري... زمن لا يعرف الزمن ولا يعرف التوقيت... يركض الزمن بسرعة الزمن فلا توجد فيه بداية ولا نهاية... لا يمكن حساب الزمن فلا ساعات ولا أيام ولا شهور ولا سنوات ولا شيء. يا له من زمن... أمضي معه متكئاً على كتفيه محلقاً للمجهول... وتعود الذكرى في وجداني، ماذا تملكت... من بضاعة مغشوشة لهذه الدنيا... لا شيء...! وتطل علي عبارات في لحظة خاطفة لمارسيل بروست من رواية "البحث عن الزمن المفقود" قال فيها "... والزمان لا يموت كلياً... حسبما يتبدى لنا، ولكنه يظل بداخلنا، فليس المهم أن نعيش بين هذه الأوهام ومن أجلها، بل نبحث في ذكرياتنا عن الجنات المفقودة..." الجزء الأول، جانب من منازل سوان. وأظل أنبش في دفاتر الذكريات عن زمني المفقود... فهل ندرك معنى الزمن... أم انتشينا من خمر المكان...؟! والمكان ليس إلا وهماً كبيراً... وسأقف بعد قليل معزياً في "المكان".... أو أتقبل التعازي... لا فرق بين الأمرين... فاليوم نقف نتقبل التعازي أو نعزي... وغداً... والغد هو القدر المجهول... سيقفون لي ولك في مقبرة الصليبيخات... يعزون في رحيلي ورحيلك، فقد كنا ومضة خاطفة من الزمن... ماذا تملك الآن...؟ غير "الآن" والآن هو الذكرى تجوب بلا هدف في جوف ماضيك... وهو الحلم حين يزورنا في المنام... فلنتسل بما مضى... وعفا الله عمن تركنا نجتر الذكريات ونأسى على ما فات.