لا تاريخ بعد كُتب للثورة العراقية 2003
فتاريخ الثورات يُكتب عادة ببطء شديد، وتفاصيل كثيرة، لأن الثورة لا تحدث كل يوم ولا كل سنة، ولأن الثورة تأتي بعد أن تكون كل الطرق أمام الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي قد سُدت، وبلغ الاحتقان والغليان الشعبي أعلى مستوياتهما، ولم يعُد من سبيل غير الثورة العارمة. وهكذا كان الأمر في فرنسا عام 1789، وكذلك الأمر في العراق عام 2003. أدوار بحاجة للكشف والشرح لم يُكتب بعد، ولم يُنشر دور المعارضة الداخلية والخارجية العراقية، فيما حصل فجر التاسع من إبريل/نيسان 2003، ولم يتمَّ حصره بعد.كذلك، لم يُشرح ولم يُفضح دور جيران العراق، من عرب وعجم، في تعطيل مسيرة "الثورة" العراقية، وإرسال أرتال الإرهابيين للتفجير في مئات من الضحايا العراقيين الأبرياء في الأسواق العامة، وسرادقات الأفراح والأتراح، ومراكز الأمن العراقية، ودور العبادة، والمستشفيات، والبنوك والجامعات، والمعاهد العلمية. ودفع الأموال، وتدريب الإرهابيين الانتحاريين على صُنع المتفجرات، وكيفية تفجيرها. وأيضاً، لم تدوَّن بعد آراءُ من أيَّد «الثورة»، العراقية ومن عارضها وأسباب المؤيدين والمعارضين. ولم يتمَّ استعراضها، وتصنيفها، وتدوينها حتى الآن.أما يوميات «الثورة» العراقية، منذ فجر التاسع من نيسان/أبريل حتى الآن، فلم يتمَّ تدوينها بعد، كتاريخ حديث ومهم للعراق.كل هذا سيتطلب وقتاً، وجهداً، ومالاً، وصدقاً، وشفافية، لكي يتم كما تمَّ للثورة الفرنسية، ولكن بعد وقت طويل.آلاف الصفحات سوف تُكتب مستقبلاً عن كل هذا، كما سبق أن كُتبت آلاف الصفحات عن الثورة الفرنسية، ومازالت أسرارها وتداعياتها تُكتشف، وتُكتب حتى الآن. الائتلاف والاختلاف بين الثورتين دعونا نقترب قليلاً من الثورة الفرنسية، ونرَ وجوه الائتلاف ووجوه الاختلاف بينها وبين «الثورة» العراقية:صحيح أن المقارنة بين الثورة الفرنسية و«الثورة» العراقية 2003، كانت مختلفة من حيث أدوات التنفيذ، ولكنها كانت مؤتلفة ومتفقة- إلى حد كبير- من حيث الأسباب، والمسببات، والنتائج، نظراً لاختلاف الزمان والمكان والظروف السياسية والعوامل التاريخية والجغرافية والاجتماعية والثقافية. فما أوجه الائتلاف والاختلاف بين الثورة الفرنسية و«الثورة» العراقية؟نبدأ بأوجه الائتلاف:1- اتفقت الثورتان على إزاحة الحكم السابق بما له من تاريخ أسود في الظلم والفساد والطغيان، وقهر الحرية والأحرار.2- حاول كل من الملك لويس السادس عشر وصدام حسين الهرب من وجه العدالة، لكن تمّ القبض عليهما، وإعدامهما.3- كان لإعدام الملك لويس السادس عشر وصدام حسين صدى كبير وأليم في الأوساط الأوروبية والعربية الحاكمة، خصوصا الأوساط الملكية الأوروبية المحافظة كبريطانيا. كما كان لإعدام صدام في الأوساط السياسية العربية المحافظة والقومية أثره البالغ، وبعد شنق صدام بسنوات، كان هناك من لايزال يقيم المهرجانات الشعبية، تخليداً لذكرى هذا الطاغية.4- اتفقت الثورتان على مبادئ التسامح والمساواة بين المواطنين، بغض النظر عن دينهم وطائفتهم ولونهم. كما اتفقت الثورتان على صيانة الحرية وتثبيت أركان الديمقراطية والعدالة. ورغم هذا فلا الثورة الفرنسية حققت هذه الأهداف أو جزءاً منها في سنوات الثورة الأولى، ولا الثورة العراقية حققت حتى الآن مثل هذه الأهداف.5- أصبح الحاكم في فرنسا بعد الثورة حاكماً لكل الفرنسيين وليس حاكماً لفرنسا فقط، فلم يعد الرئيس في فرنسا أو القائد حاكماً لفئة معينة (كان المجتمع الفرنسي إبان الثورة يقسم إلى ثلاث فئات متمايزة: طبقة رجال الدين «الأكليروس»، وطبقة النبلاء، وطبقة بقية أفراد الشعب) كما أصبح رئيس الوزراء العراقي رئيساً لكل العراقيين وليس للشيعة منهم أو السُنَّة أو الأكراد، أو أي طائفة دينية أو عرقية (كان المجتمع العراقي قبل 2003 يقسم إلى أربع فئات: طبقة الحاكم وأهله والمسؤولين من حوله وقادة حزب البعث وكبار الضباط، وطبقة رجال الدين (معظمهم من السُنَّة العرب)، وطبقة صغار الموظفين، وطبقة رجال القبائل والفلاحين). ورغم أن رئيس وزراء العراق نوري المالكي شيعي، وأن رئيس الجمهورية جلال طالباني كردي، فإنهما يمثلان كل العراق، بكل تكويناته الدينية والعرقية.6- كان في فرنسا والعراق نزعتان: الأولى «الإيزوتيميا» (الرغبة في انتزاع اعتراف الآخرين بالذات والمساواة معهم) والنزعة الثانية «الميغالوتيميا» (رغبة تأكيد الذات) وكلا هاتين النزعتين ظهر في العراق خاصة، وبشكل واضح نتيجة التعسف والظلم والإقصاء الذي أصاب أكبر مكونات المجتمع العراقي، في عصر حكم البعث، وهما الشيعة والأكراد. ولكن يظل مبدأ المساواة في كل بلاد العالم ناقصاً غير كامل، حيث يستحيل تطبيق المساواة كاملة، كما يشرح فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ»: أي نهاية نظريات التاريخ الرأسمالية والاشتراكية، بتحقق الديمقراطية الليبرالية.7- اتفقت الثورتان على حل أجهزة الدولة الدكتاتورية السابقة والاستعاضة عنها بأجهزة جديدة، وقد سبب هذا الإجراء في كل من فرنسا والعراق إرباكاً كبيراً، وفوضى عارمة، لاسيما أن الأجهزة في فرنسا والعراق كانت قائمة منذ مدة طويلة واعتاد عليها الجمهور، الذي كان في كلا البلدين رافضاً للتغيير ولو إلى الأفضل والأحسن. فالجديد دائماً غامض ومرفوض ومخيف في كل الأزمان والأمكنة. وكون أن الثورتين لم تحققا بناء الأجهزة الجديدة بالسرعة المطلوبة فذلك شأن آخر، يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعوامل داخلية وخارجية، وعلى رأسها في الحالة العراقية- مثلاً- موقع العراق الجغرافي من جيران كسورية وإيران، يرفضان رفضاً قاطعاً ما تم فجر التاسع من نيسان 2003. كذلك الحال كان بالنسبة لفرنسا. فعارضت بريطانيا جارة فرنسا هذه الثورة معارضة شديدة.8- أيقظت الثورتان في الشعبين الفرنسي والعراقي عمل غدة «التيموس» Thymus (الغدة الصعترية. وهي خلايا تائهة همجية في الإنسان، تحمله على العنف، وحمل السلاح، والقتل). فشهدنا ذلك العنف غير المسبوق في فرنسا، والدماء الغزيرة التي أُهدرت من جراء تصرفات وسلوكيات الغوغاء. وشهدنا كذلك العنف والإرهاب غير المسبوق في العراق من حيث عدد ضحاياه أو سبل تنفيذه. ولكن فرنسا عادت إلى رشدها واستقرت الثورة في مستقر العقل، أما العراق فأخذ شيئاً فشيئاً يستقر الآن، ولا بد له من مستقر عقلي، بعد فترة زمنية طالت أو قصُرت. أما أوجه اختلاف الثورتين فسوف نذكرها في مقال قادم. فإلى لقاء إن شاء الله.* كاتب أردني
مقالات
الائتلاف والاختلاف بين الثورة الفرنسية و«الثورة» العراقية
27-01-2010