- هل قرأت المقبرة البحرية لبول فاليري؟

Ad

- أجل، منذ زمن بعيد.

- هناك ستشعر بالسعة، بالهواء، إنها مقبرة مفتوحة على أفق ممتد، هذا هو الجمال؟

- اسمعي يا باربرا، لدينا نحن العرب شاعر كبير اسمه بدر شاكر السيّاب، وله قصيدة طويلة عن «حفار القبور» وقصيدة أخرى عن «المطر»، والمفارقة يا عزيزتي، جاءت بعد وفاته، ففي يوم دفنه نزلت أمطار كثيرة ورفض حفار القبور هذا، أن يحفر قبرا للشاعر، رفض في البداية بحجة المطر، لكنه وافق بعد لأي وبمبلغ إضافي من المال، ودُفن الشاعر، الذي لم يذهب في جنازته سوى ستة أو سبعة أشخاص.

«يموت الشعراء وحيدين عادة».

تُعلق باربرا وتضيف -لأنها لا تتوقف عن الكلام- بأنها سمعت لكنها لم ترَ عن مقبرة في القاهرة، وأنها أشبه بمدينة كبيرة، ويسكنها الأموات والأحياء جنباً إلى جنب، وإنها هي شخصياً تفضل أن تُدفن في مكان كهذا، لأن الأموات يزورن الأحياء دائماً، ويلقون عليهم التحية وقد يكتفون بكأس أو كأسين على الطاولة، ثم يغادرون بصمتٍ وهدوء.

أنا لا أعرف وضعية المقابر عندكم في عُمان؟ لكنني أتخيلها أرضاً منبسطة وبسيطة.

- هذا صحيح، ويتم الاكتفاء عادة، بوضع حجارة صغيرة فحسب، كعلامة، لكن مع مرور الزمن، لا يمكن التفريق بين قبر وآخر، ثم إن الموتى عندنا يدفنون، خارج القرية، في أرضٍ خلاء والغريب أننا نسمّيها «المدينة»، أما الملائكة...

تقاطعني باربرا:

- الملائكة شيء آخر، إنهم كائنات سرّية، وهم ودودون وغريبو الأطوار بعض الشيء، وهذا ما لا يصعب فهمه. انظر إليّ مثلاً، فأنا عندما أتنزه في تلك المقبرة القريبة من بيتي، أسمعهم، أسمع كيف يتكلم الملائكة. وأستطيع أن أفهم الكلام بدقة. مساء أمس ذهبتُ إلى هناك، ومعي باقة من الزهور، أهديتها إلى ملاكي المفضل، ومع ذلك كانت نظرته قاسية إلى حد ما، أظنه أراد أن أغير قليلاً من نمط حياتي، فأنا في الفترة الأخيرة كدرةٌ بعض الشيء، وهذا الحبل الطويل الأسود الذي اسمه الكآبة، يضايقني ويُخلخل، توازني وانسجامي مع العالم، أنت تعرف أن الإنسان هش على الدوام. لهذا نبحث أحيانا ولو وهماً، عن صلابة داخلية، تنقذنا مما نحن فيه.

باربارا لا تتوقف عن الحديث، وحديثها عن المقابر والموسيقى والملائكة، يمتزج بالشعر والرسم والكتابة، والحياة. الشمس في الخارج بدأت تغيب والمقبرة ليست بعيدة عن المكان الذي نحن فيه، من خلال زجاج المقهى يمكنك أن ترى ملاكاً يُؤشّرُ لها من بعيد، على الأغلب انه يحذرها من إفشاء الأسرار.