القصيدة كتجربة داخلية والقصيدة كلغة


نشر في 06-05-2010
آخر تحديث 06-05-2010 | 00:00
 فوزي كريم هذه إجابة عن تساؤل إذا ما كانت «التجربة الشعرية الداخلية» تسبق تشكلها في لغة لتصبح «قصيدة».

إن فرضيات علوم اللسان لا يُعوّل عليها في كتابة قصيدة، لأن حقلها بعيد عن مشاغل الشعر، تماما كحقل العلوم البيولوجية. وإذا ما كانت ثمة علاقة، فبعيدة وغير مباشرة. حتى مقولة إن «المسمى لا يكتسب وجوده إلا باسم» تضطرني إلى تأكيد بديهة: أن الشجرة، والقمر، والطائر كانت تامة الوجود، قبل أن يُصدر الإنسان البدائي صوتاً لتسميتها. وأن الهمهمات اللحنية التي كان هذا الإنسان في حاجة إليها للتعبير عن مشاعره قد سبقت قدرته على تصويرها والتعبير عنها في كلمات. الأمر لا يختلف كثيراً في حقل التجربة الشعرية. للشاعر الإنكليزي تيد هيوز قصيدة معروفة بعنوان «الفكرة الثعلب» يتحدث فيها عن صورة ثعلب يترك خطواته على الثلج الأبيض في ليلة معتمة، خارج غرفة الشاعر، وهو أمام النافذة على مكتبه في محاولة للكتابة. الثعلب يقترب، وبفعل رائحته «يدخل الثقبَ الأسود للرأس»، وتكتمل كلمات القصيدة على الورقة. التجربة البصرية، والتي تعتمد حكاية مشحونة بالترقب الغامض، تترك الكلمات على ورقة الشاعر، لتكتمل القصيدة. الشاعر Gary Snyder يكتب قصيدة مشابهة بعنوان «كيف يجيء الشعر إلي»: إليّ يجيء متعثر الخطوات/ فوق الجلمود في الليل/ ويبقى خائفاً خارج نار مخيمي/ أذهب أنا للقائه عند حافة الضوء».

شاعر ثالث يُدعى كاوشي كورياما يحاول التفصيل، ولكن في مدار مخاض القصيدة: «تخلط/ عجينة التجربة/ بخميرة/ الإلهام/ وتدلكها جيداً/ بالحب

وبكل ما تملك من قدرة/ تدقها/ وبعد ذلك/ تتركها/ حتى/ تنتفخ كبيرة/

بفعل قواها الداخلية/ حينها تحاول عجنها ثانيةً/ و/ تمنحها

شكلاً دائرياً/ وتخبزها/ في فرن/ قلبك».

التجربة الشعرية الداخلية قد تتهيأ داخل الشاعر على شكل صور، أو إيقاعات، أو ألحان. وقد تتميز هذه العناصر بصفات الجلال، أو الرقة، أو الخشونة... الخ. وقد تسمع عن مبدعٍ يقول: «كنتُ جاهزاً لكتابة قصيدة: تدفق الصور، والإيقاع، وحرارة المشاعر. ولكن اللغة استعصت علي، فذهبت إلى آلتي الموسيقية وصرت أرى ذلك التدفق يخرج على هيئة ألحان بالغة النضج. خسرتُ قصيدة، وربحت عملاً موسيقياً».

حين كتبت قصيدة «حسين مردان» عام 1972، وقد نُشرت في مجلة «الآداب» قبل وفاة الشاعر بشهر، لم أكن أعرف، ولا أعرف اليوم، لم بدأتُ بكلمتي «يا قطار الشمال/ يا قطار الجنوب...». لا بد أن تجربة التأمل الشعري الداخلية قد جاءت بصورة حسين مردان على هيئة محطة قطار مهجورة. ولذا خاطبت قطارها الغائب شمالاً وجنوباً.

تجربة شعرية كهذه لم تسكن الكلمات بعد. وسيحدث الشيء ذاته مع التجربة الداخلية التي تتكون على هيئة لحن. الشاعر غوتة يعترف بأن الإيقاع لديه كان يحقق وجوده قبل النص اللغوي. سوينبيرن كان «يصغي لأسابيع للإيقاعات تُرعد في رأسه في انتظار الكلمات التي تلائم الأصوات المُلحة». ورأي أليوت ليس بعيداً عن هذين.

هذه التجربة الشعرية الداخلية تولّد كلماتها الملائمة لتتشكل من ذلك القصيدة. ورأيي هذا لن يجافي فكرة الوحدة بين المضمون والشكل. ولكنه يجافي فكرة أن القصيدة محض لغة، لا تُخفي قصيدة وراءها.

ما من أحد يدّعي أن «التجربة الشعرية الداخلية هي محض «مشاعر، مخاوف، إحساس بالسعادة، قلق من شيء ما، رهبة، ترقّب، إلخ». هذه عناصر في إنسانية الإنسان تُلم به، شاعراً كان أو لم يكن. الذي يجعل من هذه العناصر «تجربة شعرية داخلية» هي قدرتها الاستثنائية الكامنة في أن تتحول إلى صور، رؤى، أحلام، أو إيقاعات. كنا نعرف في أحيائنا القديمة أُناساً استثنائيين في توليد الصور والرؤى حين يتحدثون. شعراء بالفطرة. هكذا نشعر دون تردد. المشكلة أن النقاد الذين يحتفون «بثورة اللسانيات»، في توجههم النقدي يفضلون أن يبقوا نابشين في المفردة، وبناء الجملة، وإحالات الضمائر، وكلّ ما يخصّ علوم اللسان. ويتركون القصيدة المتخفية وراء الشكل اللغوي الظاهر. إن أخطر ما في هذا التوجه النقدي هو التعامل مع النص الشعري باعتباره تمائم سحرية. 

back to top