ما حالة التدوين الحالية سوى تحقيق لأمنيات أولئك الذين يحلمون بامتلاك مساحات تعبيرية دون رقابة أو توفير إمكانات هم عاجزون حتماً عن توفيرها.
من بعد الريشة جاء القلم ومن بعد القلم جاءت لوحة الأزرار أو الكي بورد، إن العالم يتغير بسرعة من حولنا فماذا نحن فاعلون؟يقول نزار قباني في قصيدته الشهيرة سقطت آخر جدران الحياء، نستطيع استعارة هذا الشطر وتعديله ليواكب موضوع عالم المدونات الفسيح، ليصبح سقطت آخر جدران الرقابة، وفرحنا، ورقصنا إذ لم تعد موانع نمو العقل والإدراك والأسئلة المحرجة في العوالم الضيقة، قادرة على صد التطورات المتسارعة في وسائل وصول المعلومات إلى الناس أو دفن الآراء في حفر التخلص من الإشعاعات المضرة عدا اجتثاث خدمة الإنترنت من جذورها أو قطع الكهرباء لضمان عدم تشغيل أي جهاز.إن الثقافة العربية لم تكد تستفيق من دهشة الإنترنت الذي حملها لآفاق أبعد على صعيد الانتشار والتواصل، حتى تلقت مؤخرا هدية دسمة هي المدونات الشخصية التي يمكن تعريفها باختصار "صفحات الكترونية تفاعلية مخصصة لكتابة الآراء والأفكار في المسائل العامة والخاصة والبوح بما تحويه النفس من أفراح وأتراح".ويمكن اختصار التعريف السابق بكلمة واحدة هي "فضفضة"، قد تكون باللغة العربية أو الشعبية أو بالمزج بينهما وقد تكون باللغة الإنجليزية، إلا أن تلك الفضفضة الإلكترونية عالية الإمكانات، كونها غير مكبلة باستعمال النص المكتوب والصورة المعبرة، إذ يمكن تضمين النص التدويني مقاطع صوتية ومرئية وهو ما يمنحها طلة زاهية وتأثيرا أكثر وقعا، علما بأن ذلك النص مادة قابلة للتعليق والنقد والثناء بفضل الميزة التفاعلية التي توفرها المدونات بين المدون "الكاتب" وزواره "القراء"، وقد انتبهت الكثير من المواقع الإلكترونية للصحف التقليدية لأهمية تفاعل القراء مع الخبر ونعني بهم الشريحة التي تقرأ الصحف من الإنترنت فقط، وأفسحت لهم الطريق للتعليق على أخبارها، ويضاف إلى كل ما سبق ميزة هامة يمكن اعتبارها جوهر تأثير المدونات وهو خلوها من الرقابة فيما عدا الرقابة الذاتية للمدون الذي يتحمل وحده مسؤوليات رئيس التحرير ومدير التحرير والإخراج والتنفيذ والتصحيح.ولا تزال ظاهرة التدوين في الوطن العربي على الصعيد البحثي غير مطروقة بما يتناسب مع حجمها المتنامي، بدليل خلو عناوين الكتب الجديدة من أي إشارة لتلك الظاهرة الحديثة.وظائف إضافيةوبالرغم من أن عالم المدونات في العالم العربي مازال ناشئا لأسباب تتعلق بطبيعة توفر خدمة الانترنت وجودتها، فان التدوين اكتسب سمعة واسعة بعد أن حُمل وظائف ثقيلة فرضتها ظروف الانسداد السياسي والثقافي، كسرت من خلالها كل المحرمات والتابوهات الموروثة وهي الدين والسياسة والجنس، حيث نجد أن بعضها تحول الى صحف معارضة نشيطة ونوافذ للتعبير عن الآراء المكبوتة في الشؤون السياسية وتوجيه النقد للسياسات العامة وحشد الرأي العام ضدها، وبعضها الآخر تحول الى واحات إبداعية في جميع أجناس الأدب والفنون، وهو ما أدى الى امتصاص الكثير من حالة التذمر التي يشعر بها بعض الكتاب والمثقفين الشباب من احتكار مخضرمين لأغلب وسائل الإعلام، بعد أن خاضوا في عالم المدونات وذاقوا طعم النشر الفوري والوصول الى شرائح أوسع، وخلق حالة هجرة عكسية من الرغبة في النشر التقليدي على الورق إلى النشر في الفضاء الإلكتروني، ومؤخرا دخل إلى ساحاتنا الإعلامية والسياسية والثقافية لقب "مدون" بعد أن كنا نسمع لقب كاتب أو مفكر في دلالة واضحة إلى أن صاحب اللقب يعبر عن آرائه في مكان ما على الشبكة العنكبوتية. وبعض أولئك المدونين نجح في إصدار أول رواية أو مجموعة قصصية أو ديوان شعر بعد أن نالت نصوصه نصيبا وافرا من تفاعلات القراء الكترونيا معها.المشهد التدوينيلعل مشهد التدوين الإلكتروني في الكويت ليس حالة خاصة مختلفة عما يدور في العالم العربي بل هو صورة مصغرة عنه، الا أن الحالة الكويتية تميزت بكثرة المدونات في مختلف المجالات، بعد أن كانت البداية في عام 2004 بعدد قليل، ثم تطور الوضع تصاعديا حتى وصل الى ظهور أكثر من مدونة جديدة بصورة أسبوعية، ويقدر عدد المدونات الكويتية حاليا بألف مدونة كما تشير بعض المصادر إلى أن عدد تلك المدونات يفوق ذلك الرقم بكثير.انطلقت شرارة التدوين في الكويت منذ عام 2003 بمجموعة قليلة من المدونات خلال وعقب الحرب الأخيرة في العراق، وفي العام التالي قام الشاب بدر الفريح، مواليد 1978، بتأسيس أول مجمع للمدونات الكويتية أطلق عليه اسم صفاة المدونات (http://safat.kuwaitblogs.com/) بهدف تجميع المدونات الكويتية في مكان واحد وبطريقة لا تقتصر على ذكر وصلاتها فقط بل وتغذية ذلك الموقع بملخصات طازجة لكل موضوع "بوست" جديد ينشره احد المدونين، وكلمة صفاة مستمدة من اللهجة الكويتية وتعني الساحة الفسيحة التي كانت فيما مضى مقر النشاط التجاري وحركة الناس. ويقدر عدد المدونات الكويتية بألف مدونة مسجلة في صفاة المدونات ويصدر عنها ثمانون بوستا أو موضوعا في اليوم الواحد.ويمثل عام 2006 عام القفزة الواسعة في شهرة وانتشار المدونات الكويتية ويرجع ذلك إلى سببين رئيسين الأول تحول بعض المدونات إلى عامل ضغط رئيسي في ما عرف بمعركة تعديل نظام الدوائر الانتخابية، والثاني دخول المدونات في الانتخابات البرلمانية التي جرت في ذلك العام كواجهات دعائية لبعض المرشحين والتجمعات والتوجهات السياسية بمختلف أطيافها.ويصعب الحديث عن رقم دقيق لعدد المدونات في الكويت لعدة أسباب من أبرزها أن سهولة إنشاء المدونات لا تتطلب أكثر من تعبئة بعض البيانات ومن ثم البدء بعملية التدوين.إن الرقم المرتفع لعدد المدونات لا يعني وجود حراك تدويني بالضرورة، حيث تعاني المئات من المدونات حالة الهجر التدويني الناتجة عن تناقص الحماس للاستمرار لأسباب أبسطها أن المدون شعر بأنه قال كل ما لديه أو انه وجد أنه غير قادر على تلبية واجبات المدون كالرد على تعليقات الزوار وكتابة مواضيع جديدة بصورة مستمرة، كما أن بعض المتحمسين ينشئون أكثر من مدونة وتخصيص كل واحدة منها لنمط معين من الكتابات وبعد مرور الوقت يقوم بالتركيز على مدونة واحدة وإهمال الباقي، وجرت العادة أن من يقرر ترك التدوين يبقي على المدونة سابحة في الفضاء الإنترنتي ولا يعمد إلى مسحها، لذا الكثير من المدونات متجمدة عند مواضيع كتبت قبل عامين وأكثر.وقد طور موقع بلوقر "blogger" الذي يقبل عليه أكثر المدونين الكويتيين خدمة جديدة يستطيع كل مدون فيها رصد حركة المواضيع الجديدة لعدد غير محدود من المدونات الزميلة وهو ما جعل عملية تصفح المدونات في غاية السهولة بدلا من تخزين العشرات منها في قائمة المواقع المفضلة، وبمعنى آخر تستطيع أي مدونة كويتية اليوم التحول إلى "صفاة" جديدة للمدونات إذا تمكن صاحبها من إضافة ما يزيد على الألف مدونة كويتية.الملامح الأساسيةتتسم المدونات الكويتية بالعديد من الملامح الرئيسية التي لا تختلف كثيرا عن ملامح المدونات الأخرى في العالم العربي، وهي على النحو التالي: أغلب المدونين يكتبون بأسماء مستعارة، غارقة في محاكاة الشأن المحلي من مختلف النواحي، تحظى المدونات السياسية بالشهرة والتفاعل الأكبر من قبل القراء، المدونون في غالبيتهم من فئة الشباب كما تكشف ذلك بطاقاتهم التعريفية ونوعية مواضيعهم، غالبية المدونين من الذكور، يلجأ بعض المدونين لاستعمال رموز وشعارات أو صور لشخصيات شهيرة بهدف تعريف الزوار بهويتهم السياسية أو الثقافية، يحرص المدونون على وضع حاسبات لعدد زوارهم للدلالة على حجم شعبيتهم، تخصص مجموعة من المدونات بأعمال الجرافيك الجيدة التنفيذ واستخدامها في بعض المناسبات أو عمل بوستات كاملة تعتمد على الصور المركبة، تعدد الحملات التدوينية التي تتناول قضايا هامة مطروحة على الساحة المحلية.ووصل صوت المدونات الكويتية إلى الصحافة المكتوبة حيث تحرص جريدة "الجريدة" على وضع ملخصات لثلاث مدونات يوميا على صفحتها الأخيرة، وتفرد صحيفة "الدار" لخمس مدونات بصورة أسبوعية، وهناك صحافة أفردت للتدوين مساحات ثابتة. نماذج كويتيةيزخر عالم التدوين الكويتي بنماذج إبداعية دخلت إلى عالم التدوين الافتراضي وهي تحمل رصيدا واسعا في العالم الواقعي لهدف مشترك هو تحقيق الانتشار والوصول إلى شرائح جديدة لا يمكن تحقيقها إلا من خلال الشبكة العنكبوتية، كما توجد نماذج لبعض المدونين الذين نجحوا في إصدار أول رواية أو مجموعة قصصية أو ديوان شعر بعد أن نالت نصوصهم نصيبا وافرا من تفاعلات القراء معها.النحات الكويتي المعروف سامي محمد افتتح مدونة تحمل اسمه (http://samivision.blogspot.com) وتضم صورا مميزة للكثير من أعماله ومواضيع كتبت عنه إضافة إلى سيرة ذاتية، ولدينا الفنان المصور رضا سالم الذي بدأ كهاو للتصوير في سن مبكرة ثم احترف بعد التخرج من جامعة الكويت سنة 1980 وعمل في كل مجالات التصوير كما عمل مستشارا فنيا للتصوير لفترة من الزمن في مجلة العربي، وصور عدد مهم من المبدعين العرب مثل نجيب محفوظ وحلمي التوني وعادل امام وعبدالحسين عبدالرضا والفنان التشكيلي خليفة القطان.وافتتح سالم إلى جانب موقعه الشخصي مدونتين هما فُلك السلام ومدونة ثانية تحمل اسمه (http://redasalem.blogspot.com)، وتعنى فُلك السلام بالرحلات البحرية التي صورها أما مدونة رضا سالم فتحمل رسالة مختصرة هي "بالإمكان تصوير صور جيدة بمعدات بسيطة شرط وجود الموهبة التي لن تستطيع الأجهزة المتطورة تعويضها".ويلخص رضا سالم غرضه من النشر الإلكتروني عموما بأن "لا يوجد هناك انتشار يماثل انتشار الانترنت خصوصا انه غير مكلف، ومن يرغب بمشاهدة أعمالي ليس عليه سوى الذهاب إليها بكبسة زر"، وعن احتمال لجوئه للإنترنت هربا من هم الرقابة أكد سالم أنه لم يفكر في هذا الموضوع لان أعماله بالأساس لم تخض في المحاذير الرقابية.الأديب وليد المسلم صاحب مدونة أصبوحة (http://www.osboha.blogspot.com) أكد أن الإنترنت أوصل كتاباته إلى شرائح واسعة من القراء رغم أنه يكتب وينشر منذ العام 1975 ويطالب المثقفين باستغلال كل تقدم تكنولوجي يخدم قضية الثقافة إذ مازال هناك أدباء ومثقفون يكتبون بالطريقة التقليدية أي بالورقة والقلم "وخصوصا أن فضاء الاتصالات أصبح خدمة كبيرة للانتشار والمشاركة" معتبرا أن "هذا الأمر يشكل قفزة بالوعي عند الإنسان، فالجريدة الورقية محدودة القراء بيد أن المدونات متاحة لكل الكرة الأرضية ".وحقق المدون الكويتي "براك" صاحب مدونة آه يا بلد (http://barrak1974.blogspot.com) سبق إخراج أول عمل إبداعي إلى الأسواق عندما اصدر ديوانه الشعري "ديوان براك" الذي جمع فيه أغلب القصائد التي نشرها، ولحقه المدون فهد العسكر الذي أصدر روايته المعنونة "الأطخم" لتباع في المكتبات باسم مؤلفها المستعار وليس الحقيقي كون فهد العسكر اسما لشاعر كويتي رائد فقد البصر في صباه وتوفي عام 1951، وكان المدون فهد العسكر قد نشر روايته على عدة حلقات في مدونته (http://fahadal3skr.blogspot.com) قبل أن يصدرها في كتاب يضمها جميعا.خلاصة عامةلو أمكن النظر إلى ظاهرة انتشار التدوين بين الفئات الشبابية بعيدا عن فكرة التمرد السياسي أو العبث الطفولي، لوجدنا أننا نعيش واقعا جديدا يتمثل في لجوء الشباب العربي إلى الكتابة للتعبير عن آرائه وتدعيم تلك الآراء ببعض المستندات والمراجع، وهو ما يعني أننا على أعتاب مرحلة جديدة تبشر بحدوث حالة من التحول العميق في العقل العربي من وضعية الاعتماد على الذاكرة الشفهية إلى وضعية التمسك بالأسلوب العلمي والموضوعي في النقد والمحاورة والاختلاف.الزاوية الثانية لتلك الظاهرة هي أن المدونات باتت أفضل ترجمة لحرية النشر، إذ ليس بين الفرد وممارسة تلك الحرية إلا متطلبات بسيطة لأن يقول فيها ما يجول في خاطره في اللحظة التي يختارها وفي أي موضوع كان، وإذا ما قارنا هذه الوضعية بحرية النشر في المطبوعات الورقية فإننا سنكتشف أن حرية النشر لم تعد عمليا للأفراد بل هي لمؤسسات تحتاج إلى موارد مادية ضخمة، وما حالة التدوين الحالية سوى تحقيق لأمنيات أولئك الذين يحلمون بامتلاك مساحات تعبيرية دون رقابة أو توفير إمكانات هم عاجزون حتما عن توفيرها.
مقالات
المدونات الكويتية... حراك اجتماعي ولجوء ثقافي
09-03-2010