سيتركز بعض مفاصل هذه التجربة على نحو أكثر تأثيراً في مرحلته الباريسية، إذا جاز التعبير، إذ يقوى الإحساس بالاغتراب هنا، وتبدو الشخصيات أكثر توتراً وأكثر تعباً، هناك دائماً شيء ما، مفقود، شخصيات قلقة، تأخذ الحبوب المهدئة، تذهب إلى الطبيب النفسي -قصة سوتيان أحمر- أو تفكر بالانتحار تحت عجلات المترو، غير أن الكاتب لا يثقل على القارئ رغم هذا الزخم من التوتر، إذ يلجأ في أحيان كثيرة إلى كسر المتوالية السردية، بمفارقات طريفة، أو بسخرية مريرة سوداء.
قصة عائلة بوليسية مثلاً في مجموعته «سأقول لهم».أبطال جميل حتمل مسكونون بهواجس، ومشاعر لا تتحقق في الواقع، مشاعر في منتهى النبل، لكنها منتزعة منهم قسراً، الوطن، الصداقة، الحب، الحنان، الألفة مع الأشياء، والارتكان إلى دفء المكان، وما كان يبحث عنه جميل حتمل لم يجده إلّا في الكتابة، أعني حرية اختبار واقع الكتابة كتصعيد عال ونبيل للحرية، متنفس يجد الكاتب ذاته وقد تطهرت من واقع أليم وقاسٍ.في تقديمه لمجموعات جميل الخمس، يعلق عبدالرحمن منيف قائلاً: «إن حياة جميل حتمل رغم قصرها، تقدم درساً على أكثر من مستوى، فهي تنبض بالنبل والصدق ولها محددات لا تقبل المساومة أو التنازل وفيها تجربة جديرة بالتأمل، كما أن ما خلّفه في كتاباته، شهادة على العصر العربي الصعب بكل ما فيه من انكسارات وتحديات واحتمالات أيضاً.ما يلفت النظر في أعمال جميل حتمل القصصية، احتفاؤها بالذات، أعني الذات الكاتبة، وأغلب شخصياته هي شخصيات لصيقة به، بعضها من العائلة، الجد، الجدة، الأب، الابن، الأصدقاء، بل إن أكثر القصص أشبه بالسيرة الذاتية، المكتفة، المعجونة بحياته الشخصية. مقاطع قصصية تتناول جزءاً ما، من حياته، لذلك قلما نجد لديه «صناعة أو اختراع» شخصيات بعناصر رمزية معقدة، تتأسس على أرضية نظرية وخطة مسبقة، إنه ببساطة يكتب كما لو كان يحكي عن نفسه، أو حبيبته، أو عن صديقه، بحرارة وصدق بعيداً عن الفذلكة، على الأرجح أن جميل حتمل يكتب بسهولة، بيسر، وبلغة صافية تمتاز بظلال تحيط بالشخصية والحدث والمكان دفعة واحدة، حتى قصصه المكتوبة في فترة مرضه «قصص المرض، قصص الجنون»، تمتاز بهذه الخاصية مع جرعات اضافية من التوتر تستدعيها حالة المرض عادة، لذلك ترك هذه القصص في حالتها «الخام» تقريباً.لو كنتُ قاصاً لكتبت عنه قصة تحكي عن كاتب أربعيني يخرج من السجن فيلتقي أول ما يلتقي بطفلة على رأسها قبعة بيضاء أمام شارع قرب مبنى السجن، كأنما جاءت هذه الطفلة من أجله، جاءت وحيدة وحينما رأته ابتسمت له، ودون أن تتفوه الطفلة بكلمة تنزع قبعتها البيضاء وتمدها إليه، إلى الرجل الأربعيني الذي خرج تواً من السجن، يتناولها يضعها على رأسه وفجأة يتحول الرجل إلى طائرٍ جميل بقبعة بيضاء، ثم يختفي بين الغيوم والطفلة تنظر إليه وتلوّح بيدها.
توابل
الطائر ذو القبعة البيضاء في استذكار جميل حتمل 2
07-04-2010