رسالة المصلين خلف الكلباني
ما حدث يوم الجمعة الماضي في جامع المحيسن في الرياض كان رسالة شعبية مدوية لم تتوقعها قوى التشدد على الإطلاق، فبعد أن أفتى أحد أعضاء هيئة كبار العلماء بعدم جواز الصلاة خلف الشيخ عادل الكلباني لأنه جاهر بالمعصية حين قال إن الغناء مباح شرعا، توقع الكثيرون ألا يتجاوز عدد المصلين يوم الجمعة في جامع المحيسن أصابع اليد الواحدة، فإذا بالمسجد الكبير يغص عن آخره بجموع المصلين الذين قارب عددهم خمسة آلاف شخص.
إنه صوت الأغلبية الصامتة التي فاض بها الكيل من الأطروحات المتشددة، ورسالة ملايين المهمشين الذين يدركون بالفطرة أن الانغلاق والتعصب والتشدد، كلها أمور لا تتوافق مع سماحة الإسلام، كانت قوى الظلام تنتظر موعد صلاة الجمعة بفارغ الصبر كي تثبت للناس أنها هي التي تقود المجتمع، وأن من يخرج عن طوعها يكون مصيره العزلة والإقصاء، ولكن ما إن حان الموعد حتى حدثت الصدمة التي أقل ما يقال عنها أنها كانت تاريخية.بالطبع كان للحملات التي أطلقت على شبكة الإنترنت تأثيرها الواضح في توافد هذا الحشد الكبير من المصلين، رغم أن عمر هذه الحملات والرسائل البريدية لم يتجاوز 48 ساعة، ولكن الحضور لم يكونوا جميعا من رواد الإنترنت، حيث كان هناك حضور واضح لكبار السن الذين قال أحدهم لمحرر جريدة «الوطن» السعودية: «أليس الكلباني مسلما؟ فكيف يفتي عضو هيئة كبار العلماء بعدم جواز الصلاة خلفه؟» بينما قال أحد المصلين: «الوعد رمضان وسترون عدد الذين يصلون خلف الكلباني في صلاة التراويح!».صعد الكلباني المنبر وكان أكثر حكمة من خصومه، حيث لم يستغل هذا المكان لتصفية حساباته الشخصية أو الدفاع عن وجهة نظره، كما فعل خصومه معه طوال الأسابيع الماضية، بل على العكس من ذلك تحدث عن فضل العلماء، وأنهم ورثة الأنبياء، فكان في خطبته يقابل الإساءة بالإحسان، وهذه هي أخلاق الإسلام التي لا تخفى على أحد، حيث لا يليق أن يتحول منبر «الجمعة» إلى وسيلة لتصفية الحسابات الحزبية أو إدارة الصراعات الفكرية. لم أشعر بالشفقة على قوى التشدد مثلما أشعر اليوم! فقد كانوا يروجون لسنوات طويلة بأنهم أصحاب الكلمة الأولى والأخيرة وأن من يختلفون معهم ليسوا إلا أقلية لا قيمة لها من شراذم اليساريين المدحورين والليبراليين المعزولين عن المجتمع، ولكنهم ارتكبوا خطأ استراتيجيا حين حددوا موعداً زمانياً ومكانياً للاختبار العملي الذي يثبتون من خلاله شعبيتهم الساحقة... وكانت النتيجة أنه ثبت بالدليل القاطع أن هذه الشعبية ليست إلا وهماً كبيراً.ولم يكن تحديد موعد الاختبار هو الخطأ الاستراتيجي الوحيد الذي ارتكبه التيار المتشدد، فثمة خطآن كبيران كان لهما تأثيرهما الواضح على هذه النتيجة غير المتوقعة: الأول، هو أن هذا التيار اعتبر أن تدين المجتمع وتعاطفه الفطري مع كل ما يتعلق بالدين يعني بالضرورة تبعيته العمياء لهذا التيار، والثاني هو مبالغة رموز التشدد في الهجوم على الكلباني، ووصفه بأوصاف لا تليق بوقار العلم، والمطالبة بالحجر عليه، ما دفع الناس للتعاطف معه ومناصرته ضد هذه الحملة الشرسة التي لم يحترم أصحابها قواعد الاختلاف.ليس لدي أدنى شك في أن بعض المصلين الذين قدموا أول من أمس من مختلف أنحاء الرياض- الشاسعة والمزدحمة- إلى جامع المحيسن قد لا يوافقون الكلباني على فتواه بإباحة الغناء، ولكنهم فجعوا بفتوى عدم جواز الصلاة خلفه، فأصروا على إيصال رسالة الأغلبية الصامتة، والتي كان ملخصها: «لا للتشدد».* كاتب سعودي