من الصعب أن تراقب في فجر ضبابي، خطوات الحلاّبات السويديات دون أن ترتعش. ويكاد يكون هذا المشهد -إن لم ترهُ- مستحيلاً في الخيال. وهو مشهد أبيض وريفي في الأصل. لا دخل للمدينة في هذا. المدينة باعثة على الاكتئاب والملانخوليا، اسألوا بودلير لتتأكدوا.
كلما ذهبتُ الى الريف وجدتُ هذا المشهد آسراً، خصوصاً في فصلَي الربيع والخريف. إنه يمتلك جاذبية خاصة. فالحلاّبات يُفكرّن بطريقة بيضاء تماماً. أول شيء يفعلنه في الصباح الباكر هو الخروج الى الحظيرة بملابسهن البيضاء الشفافة. وبفعل ضغط أناملهن البيضاء أيضاً ينزل الحليب في الاواني الفخارية، أبيض طازجاً. القشُّ المهملُ جانباً والذي يتحول ذهبياً بفعل خيوط شمس الصباح الاولى والتي تضيء في طريقها أيضاً زغب الذراعين أو جزءاً من الوجه المنحوت للمرأة- الحلاّبة. أضف إلى المشهد صياح الديكة من بعيد ورائحة الحليب، ورفرفة جناح طائر صغير هنا أو هناك والزبدة الطريّة التي في انتظارك ثم رائحة الارض الرطبة والاعشاب ورائحة الازهار وعباد الشمس وفوق هذا انت الذي تتذكر الآن مشهد الحطّاب مع الليدي تشاترلي في رواية لورانس الشهيرة، وفي ذهنك أيضاً معلومة عامة عن منتجات الالبان الاسكندنافية وانت القادم من الصحراء والجبال تراقب هذا المشهد الابيض تماماً، بعين لا يرف لها جفن، كأنك أمام لوحة من عصر النهضة الأوروبي وفي ذهنك ترتفع موسيقا الطبيعة والترف، ثم إن البحيرة ليست بعيدة للاغتسال في ما بعد، والقارب الموضوع هناك على حافة جرف البحيرة، جاهز لهدهدة أحلامك، وعندما ترفع رأسك، الى الاعلى قليلاً، ستكتشف ربما للمرة الاولى أن السماء زرقاء حقاً، مرشوشة قليلا، بقطن أبيض يُشبه السحاب. وإذا تلفت يميناً قليلا فبإمكانك، أن تلمح غزالاً عابراً في الغابة، أو أيلاً سعيداً يرعى بحرية تامة. وإذا تلفَتَّ يساراً فإنه بإمكانك أن تتحسس بأصابعك سنبلة ناضجة ومتوهجة.انها الطبيعة تتكلم، بلغة الاشارات هذه المرة وأنت صامتٌ، لكن حواسك تستيقظُ على مهل فتسمع خرير قطرات الحليب وهي تنساب في الابريق الفخاري وتكون الشمس قد أضاءت الآن وجه المرأة المنمّش كلهُ، في تزاوج بديع مع شعرها الاشقر أصلاً، فتنسى قليلا عصر «الحداثة» لأنك أمام مشهد مشتعل حقاً، واللهب يكاد يحرق ثيابك وأنت واقف في البرية الشاسعة كما لو كنت الانسان القديم، الأول، والعصا في يدك جاهزة للاشتباك والحلاّبة تحدق في عينيك فترى فيهما، جبالاً وصحراء وودياناً بعيدة، مُشيرة في الوقت ذاته، إلى أن الوقت قد حان لشرب الحليب المُزبد، مؤكدة أيضاً، أن الدعوة الصريحة هذه، لك وحدك.
توابل
لك وحدك
10-06-2009