رئيس الشرطة: المناهج المسموح بتدريسها هي القراءة والكتابة... والحساب... فقط.
المعلم: وماذا عن بقية العلوم؟رئيس الشرطة: لا حاجة لنا بها... وهي في غالبيتها علوم تؤدي إلى تشتيت الذهن وتغييب العقل، كما يقول سيادة القس.المعلم: إذن هو قانون وضعه القس.رئيس الشرطة: بالتأكيد... ومن غيره يملك المعرفة الصحيحة؟المعلم: طبعا لا أحد... ولكن لو تعلم الجميع... لامتلكوا أيضاً المعرفة الصحيحة... لأصبحوا جميعا كالقس.الحوار السابق مقتبس من مسرحية تاتانيا رائعة بدر المحارب الأخيرة. ويلخص الحوار بذكاء عقلية الوصاية في التعامل مع حرية التعبير والمعرفة. والوصاية في الوطن العربي تأتي من الحاكم ورجل الدين وشيخ القبيلة ورب الأسرة كل في نطاق سلطته. فكل منهم يعتقد أنه من الحكمة بمكان بحيث يمكنه تحديد ما ينفع وما يضر وما يمكن لجماعته استيعابه وما يفوق قدراتهم، فيضع الحدود على ما يمكنهم رؤيته أو سماعه أو قراءته أو قوله وحتى ما يجوز لهم التفكير به.وحتى تنجح الوصاية في حد التعبير فلابد من تعاون الآخر برضوخه للحدود وتقبلها دون مقاومة أو تحد. فالغالبية تتقبل بسلام الحدود التي تفرضها الدولة والمسجد أو الكنيسة والعائلة، بل إن الكثيرين يتنازلون عن حرياتهم طواعية ويبحثون عن الضوابط والفتاوى والشروط ليشعروا بالراحة والأمان. فما الذي يدفع بإنسان عاقل بالغ أن يتنازل عن حقه الطبيعي بالتعبير والمعرفة؟برأيي المتواضع هي ثلاثة عوامل رئيسة: الخوف والجهل والكسل. فحرية التعبير ككل الحريات تتضمن مسؤولية كبيرة على عاتق من يتمتع بها. فأنت في النهاية مسؤول عن تصرفك وما يترتب عليه. وهذه المسؤولية مخيفة للبعض، خصوصا إذا لم يُربَ عليها ولم يتدرب على تحملها. لذا ينأى بنفسه عنها ويحملها للوصي سواء كان ولي الأمر أو العالم بشؤون دينه. طبعاً يزيد من هذا الخوف الإرهاب الذي تمارسه السلطات السياسية والاجتماعية والدينية والتي تهدد بعزل وعذاب كل مَن يشذ عن القطيع ويفكر باستقلالية.ويتعزز الخوف من الحرية بانتشار الجهل والتخلف. فكيف يمكن للأمي الاطلاع والبحث والمعرفة؟ وكيف للجاهل أن يتحدى العادات والتقاليد وما ألفينا عليه آباءنا وسلطة الشيخ والعالم بأمر ربه؟ وهل يمكن لأنصاف المثقفين مقارعة من أمضى حياته في غسل الأدمغة وتشويه الحقائق؟ لذا نرى مَن يدافع عن كتب لم يفقهها ويهاجم أخرى لم يقرأها ويقتل نفسه دفاعاً عن أفكار هي سبب تعاسته.وأسوأ عوامل الرقابة الذاتية هو الكسل أو عدم وجود رغبة حقيقية في البحث والمعرفة وممارسة حرية التعبير بشكلها المتكامل والصحي. وتلك للأسف من معالم الطبقة الوسطى في العالم العربي التي تستمتع ببعض المزايا بسبب النظام القائم مثلما تتضرر منه، ولكنها تفتقد إلى الدافع للتغيير. فيستسهل المرء اجترار ما يقدم له على أن يضيع الوقت والطاقة في البحث والاستكشاف. وأرى الكسل أسوأ العوامل لأن الكسول لا يمكنه أن يلوم النظام أو الظروف لتقاعسه... فقط أنانيته تمنعه من التمتع بكامل إنسانيته.* الجزء الثالث والأخير من سلسلة مقالات حول حرية التعبير
مقالات
من يضع حدوداً على حريتنا بالتعبير؟
09-08-2009