الذكريات الصغيرة... هي السيرة الذاتية للكاتب البرتغالي جوزيه سَاراماجو، التي يتناول فيها تلك التفاصيل الصغيرة التي تلتصق بذاكرة الطفولة بلا أدنى سبب واضح لهذا الالتصاق، وتكمن هناك في مخبئها السري إلى أن تبزغ في إشراق غير متوقع يُباغت الفنان في شكل قصيدة أو لوحة أو رواية، وغير ذلك من فنون.

Ad

هذا الكمون السري الحاضن لأغلب النتاج الإبداعي، غالبا ما ينبثق من خزين عالم الطفولة بكل إيهامه وطلاسمه وأساطيره الملتبسة... ولهذا نجد في هذه السيرة الكثير من عوالم جوزيه سَاراماجو التي سجلها في رواياته، وكان منبعها السري هو بئر تلك الطفولة التي عاشها في قريته أزينهاجا ومدينة أريتاجا البرتغالية.

وكثير من الشخصيات التي التقينا معها على ضفاف صفحات رواياته، مثل شخصية الأعمى في روايته «العمى»، وكذلك شخصية فرانسيسكو كاريرا الإسكافي الذي كتب عنه في «الإسكافي العجيب»... وكذلك فعل في روايته «كل الأسماء» التي استوحاها من موت أخيه، الذي لم يجد موته مسجلا في الأرشيفات لمقابر «لشبونة «، فبدأ رحلة البحث عنه في السجلات المدنية.

مثل هذه الذاكرة لطفولة سَاراماجو التي أمدته بكنز فني غرف منه أهم أعماله الفنية، ألا يدفعنا هذا الأمر إلى التساؤل عن كيفية هذا التأثير، ولماذا يُصاب به طفل ما من مجموعة من أقرانه عاشت الحياة ذاتها وتقاسمت كل ذكرياتها بكل أطيافها، ومع هذا لم تستفِد من ذاكرة الطفولة بأي شيء؟

ولماذا نجد أن ذاكرة الطفولة تحفر لوجودها خندقا أكبر وأعمق مع الكاتب والفنان، ولا تمر من دون أن تترك لوجودها أثرا ما في حياته... ومن بعد ذلك يظهر في إنتاجه؟

وذات التساؤل يحضر مع مجموعة أخرى تستمع لحكايات المساء أو تتشارك في قراءة كتب معينة، لماذا نجد أن طفلا واحدا من هذه المجوعة قد أثرت فيه هذه القراءات فأصبح شاعرا أو رساما أو روائيا؟

الجواب على هذه الأسئلة، هو أن أغلبية الأطفال تستمتع بالحكايات وقراءتها، لكن لم يتملكها جموح الخيال مثل الذي تملك الطفل الفنان منهم.

الخيال هذا هو مفتاح موهبة الطفل المبدع، وهو الذي يحتضن البذرة وينميها عبر سنوات الطفولة والصبا المبكر، حتى تكبر وتشق دربها عبر فورة الشباب ولهب النضوج.

تلك الحكايات والصور التي تلبد في الذاكرة، مخبأة ومنفصلة عن كل ماضيها، هي الزاد السري الذي ستنبثق منه كل الشرارات والإشراقات القادمة.

وهذا مقتطف من «الذكريات الصغيرة» التي يشرح فيها سَاراماجو عملية التذكر لديه:

«أحيانا كثيرة ننسى ما نحب أن نتذكره، وأحيانا أخرى، وبشكل متسلط لا فرار منه، مقاومين المؤثر نفسه، تأتينا من الماضي صور، وكلمات متناثرة، لكنها ها هنا موجودة، وهذه الصور هي التي تخبرنا أنه في تلك الفترة بالإحساس لا باليقين».

من هذا الإحساس أو من تلك الصور الغائمة، ولدت أهم وأكبر الأعمال الأدبية الفنية في العالم، كلها أتت من تلك البئر الغائرة في عالم الطفولة... ذاك الحضن الرهيب الحاوي كل امتيازات المستقبل.