إماتة العراق الجديد عطشاً بعد تدميره بالمتفجرات
"لو سَلِمَ العراق من جيرانه، لكان بألف خير وعافية". قول سمعناه من أكثر من حكيم، داخل العراق وخارجه، ولكن أنَّى للعراق أن يسلم من عبث، وحقد، وحسد، وخوف، وكيد جيرانه له، وهو القوي بذاته، وبقدراته، وبثرواته البشرية، والمائية، والزراعية، والبترولية والثقافية؟!أقوى العرب ذاتياً: بل إن العراق يُعدُّ أقوى بلد عربي ذاتياً، ويستطيع أهله أن يعيشوا برخاء ودعة دون حاجة للعرب والعجم، وعلى غير الريع الذي يعيش عليه معظم جيران العراق، من عرب وعجم.
فالعراقيون مزارعون، وفَعَلَة في مختلف مجالات العمل الصناعي والزراعي والتعليمي، وظلت جامعة بغداد إلى عهد قريب، قبلة الطلبة العرب من كل أنحاء الوطن العربي، كما ظلت المعاهد والكليات العسكرية والدينية قبلة الشباب العربي الراغب في الخدمة العسكرية والدينية، ومازلت أذكر عدد الطلبة الأردنيين من وزراء حاليين وسابقين، ومن قادة في الجيش الأردني ممن تخرجوا من مختلف معاهد وكليات بغداد خصوصا قبل عام 1970. كما أن كبار علماء الشيعة- خاصة- قد تخرَّجوا من النجف.وقبل عام 1970 وبعد هذا التاريخ، ظل العراق ينظر إليه كمصدر رئيس للخطر على جيرانه المحيطين به، بل هو خطر على من هم أبعد من هؤلاء الجيران، خصوصا بعد عدوان صدام حسين الغاشم على الكويت 1990، وهزيمته المنكرة في حرب الخليج الثانية 1991.محاولات لإسقاط العراق الجديد: بعد التاسع من إبريل 2003، برز العراق الجديد، كتحدٍ سياسي لمعظم جيرانه، وكان على هؤلاء الجيران أن يحاولوا إسقاط العراق الجديد بشتى الوسائل، وكان أبرز هذه الوسائل فتح الحدود مع العراق على مصراعيها، في غياب القوة العسكرية العراقية الرادعة، وإرسال قوافل الإرهاب من كل فج عميق، لتدمير العراق الجديد، في ظل تنامي حركات الإرهاب الدينية في العالم العربي، بعد كارثة 11 سبتمبر 2001.فعاث الإرهابيون في العراق تدميرا،ً وقتلاً، ونهباً، وسرقة، وسطوة على البنوك... وكل هذا في سبيل تدمير العراق من الداخل. ولكن ظل العراق صامداً، وقد تضرر بسياسييه أكثر مما تضرر بالإرهاب، فإذا كان الإرهاب قد دمر جزءاً من العراق من الخارج، فقد دمّر سياسيو العراق هذا البلد من الداخل بفسادهم، الذي قالت عنه "منظمة الشفافية العالمية"، إنه أضخم وأقبح فساد مالي شهده التاريخ، وأيّدت هذا القول "هيئة النزاهة العراقية" كذلك. واتبع سياسيو العراق الحاليون فضائح الفساد ورائحتها النتنة، بالتنكر للديمقراطية، التي بدأت بشائرها تلوح قبل سنوات، ولكن نورها انطفأ، نتيجة تجذُّر الطائفية الدينية في نفوس الساسة، وتحكُّم الدكتاتورية في السياسة منذ عهود طويلة، فأصبح من الصعب غسل كل هذه الأوساخ والقاذورات، بين ليلة وضحاها!حرب الماء بعد حرب الإرهاب: عندما لم يجد بعض جيران العراق ثمرة، ولا نتيجة حتمية، لإعادة العراق إلى ما قبل 9 إبريل 2003، رغم أن بعضهم– كإيران- استفاد فائدة كبيرة من سقوط النظام الدكتاتوري السابق، ولعل إيران– وبذكاء شديد– هي المستفيدة الوحيدة من العراق الجديد، على المستوى السياسي، بما حققته من اختراق سياسي كبير، بحيث أصبحت الحكومات العراقية تتألف في طهران، وتُعلن في بغداد! وبما حققته من اختراق عسكري، بحيث تمَّ تفكيك الجيش العراقي، الذي قتل مليون إيراني، في حرب الخليج الأولى 1980-1988. وعلى المستوى التجاري، باعت إيران للعراق الجديد عام 2009 بمبلغ 6 مليارات دولارات، ومن المنتظر أن يرتفع هذا الرقم إلى 9 مليارات دولار هذا العام 2010، وبقيت سورية هي الخاسرة الكبرى من بين جيران العراق، ولكن تفتَّق ذهن حكام دمشق، إلى طريقة للاستفادة من "المغْنَم" العراقي، بحيث يضربون عصفورين بحجر واحد، فلم يجدوا غير "لعبة الماء" التي بين أيديهم، حيث يمر نهر دجلة في سورية لمسافة 50 كم، وتقبض سورية على عنق هذا النهر، فإن أرادت خنقته في أرضها، مات العراق عطشاً، وإن أرادت أفلتت عنقه فنَعِمَ العراق بالخُضرة والخير. فهذا عصفور، أما العصفور الآخر، فيتمثل في بناء المزيد من السدود على نهر دجلة في الأراضي السورية، دون مراعاة لمصالح العراق، وهي الحال نفسها بالنسبة لنهر النيل، حيث تقوم أثيوبيا ببناء المزيد من السدود وحرمان السودان ومصر، من حصتهما المعتادة من مياه النيل، مما يهدد المستقبل الزراعي في السودان ومصر تهديداً خطيراً. وتقول سورية إنها تريد ري واستصلاح حوالي 200 ألف هكتار في محافظة "الحسكة" (شرق سورية) لتحسين أداء الاقتصاد السوري المتعثر، والمتدني.هل ستندلع حروب المياه؟ منذ زمن طويل، والخبراء يحذرون من نشوب حروب المياه، في منطقة الشرق الأوسط، خصوصا بين إسرائيل والعرب، وقد قرأنا الكثير من هذه التقارير (انظر مثالاً: كتاب بيان العسَّاف "انعكاسات الأمن المائي العربي على الأمن القومي العربي"). ومازالت مشكلة المياه من بين العوائق لإحلال السلام بين سورية وإسرائيل.والآن تقوم سورية ضد العراق، بما قامت وتقوم به إسرائيل ضد سورية في "حرب المياه" (تجفيف مياه بحيرة "الحولة"، واستغلال مياه الجولان). وهذا ما أكدته صحيفة "الأوبزيرفر" البريطانية، التي قالت إن الحرب القادمة على المياه ستكون مفزعة.فهل العلاقات السورية–العراقية الحالية، من المتانة، والتفاهم المتبادل، ما يجعل فكرة "حرب المياه" بين العراق وسورية غير واردة، وأن التسويات والحلول السلمية، هي التي ستسود في المستقبل القريب؟والغريب، أن سورية لا تعترف بأي اتفاق تمَّ بينها وبين العهد السابق، عدا اتفاقية المياه في 1989، والتي تنصُّ على شرعية سحب مياه دجلة من قبل سورية على النحو، الذي يُعدُ له الآن! وكما قال عضو لجنة الزراعة والمياه في البرلمان السابق جمال البطيخ، فإن العراق يحتاج إلى موقف حكومي مسؤول، يُلغي هذه الاتفاقية.فأين هو الآن هذا الموقف؟!* كاتب أردني