قبل أن يسافر، أوصاني جاري بأن أتفقد الأسماك في حوضها، والطيور في أقفاصها. قال مطمئنا نفسه: لولا ثقتي بأنك ستكون أحرص مني عليها لما خطوت خطوة واحدة وراء عتبة بابي. تعرف ليس ممكنا أن أهنأ برحلتي، وقلبي متروك هنا نهبا للقلق. آه يا جاري العزيز أشكرك من كل قلبي... أشكرك.

Ad

قلت له، وأنا أستجمع راحته في يدي مودعا: لا تشكرني على أي شيء يا سيد ماكنتاير.. اشكر وطنك.

ضحك قائلا: هوووه.. تواضعك مضحك يا جاري الطيب. أرجوك، اقبل شكري، لكي أستطيع أن أمضي مطمئنا. إنني لم أوص وطني برعاية حيواناتي، لقد أوصيتك أنت بالذات. لا تنس ذلك.

قلت بمرارة: ثقتك في محلها يا جار.. لم أقصد التملص.. صدقني إنني جاد في قولي بأن عليك أن تشكر وطنك.. الوطن الذي تستطيع أن توصي أحدا فيه برعاية أشيائك، ثم تمضي، وأنت واثق من أن وصيتك ستنفذ.

قال: تنفيذ الوصية ليس رهنا بالوطن، إنه رهن بالشخص الأمين الذي توصيه.

قلت: كلا. الوطن أهم شيء في هذه القضية. اسألني أنا. فلقد أوصيت كثيرين على أشياء غالية عندي مثل أشيائك، ومعظمهم كان وفيا وأمينا، لكن لم يحفظ أحد منهم وعده.

فتح جاري عينيه على سعتهما، وفغر فاه: غير معقول! أهملوا سمكاتك وطيورك؟!

ضحكت أنا هذه المرة: تقريبا.

قال بحدة: ما هذه التقريبا؟ أهملوها أم لم يهملوها؟

قلت مستهدفا أن تكون كلماتي باردة ومكسرة مثل مكعبات الثلج: لم يهملوها يا جار. لم يهملوها. سمكاتي وطيوري ليس لها وجود. لقد أوصيتهم بأهلي.

صاح مستغربا: أهملوا أهلك؟!

قلت ببرود أيضا: تقريباً.

صرخ محتداً: وما هذه التقريبا الآن؟

قلت: بصراحة، إنك تستطيع أن توصي أحداً بأن يعتني لك بأحد، لكنك بحاجة إلى أحد ثالث ليضمن لك العناية بالأحد الأول، وتحتاج أيضا إلى أحد رابع ليعتني بالأحد الثالث، وتحتاج إلى أحد خامس، وإلى سابع، وإلى عاشر، وإلى ما لا نهاية. الواقع أن أغلب من أوصيتهم كان يمكن الاعتماد عليهم لو لم يكونوا مقيمين في وطني. مثلا.. أوصيت جاري عبدالمعبود بأن ينفق على أهلي كلما تأخرت في إرسال النقود إليهم، على أن يسترد ماله مني لاحقا.

قال الجار: وماذا في ذلك؟

قلت: مهلا.. فقبل أن يحتاج أهلي إلى نقود عبدالمعبود، صار عبدالمعبود يقترض نصف ما أرسله إليهم، ذلك لأنه طرد من عمله بشبهة عدم الولاء للحزب، وعندما أعدموه صار أهلي مشبوهين لأن زوجته كانت تزورهم.

مثلا: أوصيت رجلا أعرفه بأن يقدم المأوى لأخي إذا تطلب الأمر لا سمح الله.

سأل الجار: وهل آواه؟

قلت: كلا.

هتف الجار: جبان.

قلت: انتظر... إنه ليس جبانا، بل مشبوه، لقد علمت في ما بعد أنه نفذ وصيتي بالمقلوب فقد لجأ إلى بيتنا يوم لاحقته الشرطة بتهمة إلقاء منشورات معادية للسلطة. وحينما قبضوا عليه، قبضوا على أهلي معه بتهمة إيواء خائن هارب من وجه العدالة، وبعد عامين من التحقيق أطلقوا سراح أبي وأمي وأختي بكفالة قدرها أخي!

مثلا.. أوصيت جارنا سلمان بأن يهتم بكل صغيرة وكبيرة من شؤون أمي وأبي وأختي إذا حدث مكروه لأخي لا سمح الله. فالوالدان عجوزان، والبنت قاصر. وقد سمح الله بمكروه لأخي كما أسلفت. واستطاع سلمان أن ينفذ وصيتي بحذافيرها.

قال الجار: أخيرا.. وجدت رجلا شهما.

قلت: إلى أبعد حد. إنه لم يقتصر على متابعة كل صغيرة وكبيرة من شؤون أهلي، بل كان أحيانا يخترع لهم شؤونا أخرى من عنده. كان مخلصا جدا في خدمة المخابرات.

مثلا.. أوصيت صديقي عبدالرزاق بأن يأخذ من والدتي جميع كتبي وأوراقي المهمة- إذا اقتضت الظروف- وأن يدفنها بمعرفته.

قال الجار: ليس هذا أمرا صعبا كما أعتقد.

قلت: لا. بل سهل جدا. لولا تقاطع الوصايا.

سألني الجار: هذه لم أفهمها! ماذا تعني بتقاطع الوصايا؟

قلت موضحا: أعني أنني أوصيت عبدالرزاق بدفن كتبي وأوراقي المهمة، وفي الوقت نفسه كان جهاز المخابرات قد أوصى رجاله بدفن عبدالرزاق.

مثلا.. أوصيت خالي بأن يأتي من قريته البعيدة بين مدة وأخرى، ليرعى شؤون أمي وأختي، إذا وقع لأخي وأبي مكروه لا سمح الله.

وأنت تعلم أن الله قد سمح بأن يقع لأخي مكروه. أما أبي فقد وقع له ميكروب، إذ لم يمض وقت طويل حتى أعطاك عمره.

قال الجار: أعطاني عمره؟!

قلت: لا تقف في بلعومي إنه لا يعرفك... ولو كان الأمر بيده لما أعطاك نصف ثانية. العمر غال يا رجل. ثم كيف سيعطيك عمره؟ البريد لا يصل... وأنت لا يمكن أن تأخذ عمرا كل دقيقة فيه بمأساة.

من المعتاد عندنا، يا جار، أن نقول لمن مات... (أعطاك عمره). المهم أن أبي مات، وخالي لم يأت لرؤية أمي.

قال الجار: أإلى هذا الحد تبلغ به القسوة؟!

قلت: كلا... لم يفعل ذلك بسبب القسوة.

قال الجار: إن لم يكن بسبب القسوة، فبأي سبب يمكن أن يكون؟!

قلت: بسبب الوفاة.

قال الجار: ما حاجة أمك إليه أصلا لولا حدوث الوفاة؟

تساءلت: وفاة من تعني؟

قال الجار: وفاة أبيك طبعا.

قلت: لكنني أقصد وفاة خالي نفسه. فهو أيضا أعطاك عمره. لقد مات بالذبحة بعدما سلموه جثة ابنه في كيس. المهم أن تركته كلها آلت إلى أمي.

قال الجار: شيء أحسن من لا شيء... يمكنها على الأقل، أن تنفق من هذه التركة.

قلت مصححا: لا يا جار.. بل تنفق على هذه التركة. إن تركة خالي هي عبارة عن سبع بنات وصبي.

مثلا.. أوصيت..

صرخ جاري من كل قلبه: كفى.. كفى.. لا أريد أن أسمع أكثر.

قلت: مثلا.. لو كنت في وطني وأوصيتني على طيورك وسمكاتك لذهبت أنت من هنا، ولذهبنا نحن في داهية. سيذبحون طيورك بتهمة التغريد، ويذبحون سمكاتك بتهمة الخوض في الماء العكر، ويذبحونني بتهمة حيازتها.. أما أنت فسيذبحونك غيابيا!

اطمئن.. إن سمكاتك وطيورك في الحفظ والصون. لكن طاوعني.. واشكر وطنك.

تأملني جاري مليا. كان في نظرته مزيج من الإشفاق والذهول..

انحنى إلى أرض الحديقة، وتناول حفنة من التراب وقبلها.

تأملت جاري مليا. كان في نظرتي مزيج من الغبطة والانكسار..

انحنيت إلى أعماقي، وتناولت حفنة من الدموع.

* شاعر عراقي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء