في ستينيات القرن الماضي قدمت السينما المصرية واحداً من أروع أفلامها، ومن أفضل 50 فيلماً في تاريخها، وهو «الزوجة الثانية» بطولة الراحلين صلاح منصور، وشكري سرحان، وسناء جميل وآخرون، وقام فيه الراحل حسن البارودي بدور شيخ الجامع وفقيه العمدة الذي يبرر له أفعاله وتصرفاته الظالمة بسند من الدين وبفتاوى شرعية، بما في ذلك تطليقه القسري لإحدى نساء القرية ليتزوجها العمدة، وفي كل مشهد كان البارودي يردد الآية الكريمة «أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» مع الضغط على حروف أولي الأمر.

Ad

عدت بذاكرتي إلى ذلك الفيلم يوم الجمعة الماضي حين ارتقى إمام المسجد المنبر ليلقي خطبة الجمعة، وبدأ حديثه بنفس الآية الكريمة التي كان يرددها حسن البارودي، وعدت سريعا من ذكرياتي فسمعت الخطيب يتحدث عن خروج المحكوم على الحاكم، وأنه كثيرا ما سمع في لقاءات ومقابلات يحضرها الكثير من رفض بعض المحكومين حكامهم ونقدهم لهم، وذكر فضيلته أن في ذلك مفسدة عظيمة، وأن الدين يمنع ذلك ولا يقره، وأخذ يسهب في شرح ذلك إلى أن قال «ولو جاء هذا الحاكم عن طريق التزوير فلا يجب الخروج عليه ورفضه»!! فجنح فكري مرة أخرى وتساءلت: هل صحيح ما يقوله الشيخ؟ وأين حديثه من حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «من غش فليس منا»؟ ألا يعتبر التزوير والتزييف في الانتخابات نوعاً من الغش؟ ألا يعتبر ذلك خروجا على الدين وتعاليم الإسلام؟ فأين أنت من ذلك يا مولانا، وأنت تقف على منبر رسول الله؟ وأي مفسدة أكبر من أختها: تولي الحاكم السلطة بالقهر والتزوير؟ أم خروج المحكوم على الحاكم كما تقول؟ أيهما أكبر وأكثر مفسدة؟

عدت مرة أخرى بوجداني وفكري لاستماع الخطبة، فإذا بالخطيب يستشهد بـ«عام الجماعة» عندما قبل الإمام الحسن رضي الله عنه مبايعة يزيد حقناً لدماء المسلمين، ويستدل بذلك على ضرورة طاعة الحاكم مهما كان ظالماً، والغريب أن الشيخ لم يذكر موقف سيد شهداء أهل الجنة «الإمام الحسين» واستشهاده في قتال يزيد فلماذا؟ لماذا ذكر موقفاً ولم يذكر آخر؟!

وجنح فكري مرة أخرى- يبدو أن الشرود كثير في هذه الجمعة- ثم رجعت لأجد الخطيب يتحدث عن مقولة أبي بكر يوم تولى الخلافة «وليت عليكم ولست بخيركم...»، واستخدمها للاستشهاد بأن الحاكم قد لا يلقى قبول الجميع، وتجاهل ما تنمّ عنه العبارة من تواضع جمّ جُبل عليه أبو بكر منذ نشأته، ولم يكمل عبارته التي قال فيها «أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم»، فهل التزوير واغتصاب السلطة طاعة لله أم عصيان له؟ وإلى ماذا كان يدعو أبو بكر المسلمين بقوله لا طاعة لي عليكم؟ هل يدعوهم إلى المفسدة والشر؟

بعد انتهاء الصلاة رجعت إلى منزلي وأخرجت كتاب «رياض الصالحين» باحثا عن حديث حفظته منذ أكثر من 40 عاما ووجدته: «عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر». رواه أبو داود والترمذي... ووجدته بصورة أخرى: «عن أبي عبدالله طارق بن شهاب البجلي الأحمسي رضي الله عنه، أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم، وقد وضع رجله في الغرز أي الجهاد أفضل؟ قال: كلمة حق عند سلطان جائر»... رواه النسائي بإسناد صحيح. (الغرز بالغين المفتوحة وراء ساكنة وزاي هو ركاب كور الجمل) ص: 96. وهنا يتبادر إلى الذهن سؤالان: ما معنى كلمة الحق في الحديث؟ هل تعني معارضة الحاكم ورفضه أم نفاقه ومداهنته؟ (كي لا تكون مفسدة). وثانيا ما معنى الجهاد؟ أليس هو قوة النزال وتحمل الصعاب والصبر على المكاره؟ ألا يثبت ذلك الحديث ويدل على فهم الرسول صلى الله عليه وسلم الدقيق والعميق لتبعات كلمة الحق، ومعارضة الحاكم لدرجة وصفها بالجهاد لما يلحق بالمعارض من تضييق في الرزق وتقييد للحرية وأهوال يعيشها المعارضون؟!

والله– يا شيخنا- لو أنك ذكرت ما ذكرت، وقلت إن هذا رأيك لما لامك أحد، ولكنت أول من دافع عنك لتقوله، ولا يحق لأحد أن يفرض عليك غيره، أما أن تدعو المصلين إليه لأنه رأي الإسلام وشريعة الدين، وتقول ((ولو جاء عن طريق التزوير!!)) فأين الدين في هذا؟ هل يدعو الدين إلى نفاق الحاكم الذي جاء عن طريق التزييف والغش؟!

وختاما نذكرك بقول الله سبحانه وتعالى: «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ». صدق الله العظيم.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

يمكنك متابعة الكاتب عبر الـ RSS عن طريق الرابط على الجانب الايمن أعلى المقالات السابقة