تطغى مسألة شعبية الرئيس على الأجواء الفرنسية. كلما ازداد الوقت الذي يمضيه نيكولا ساركوزي في بلده مع مواطنيه الفرنسيين، تقل شعبيته أكثر فأكثر. وكلما جال العالم أو ركّز على التعاطي في الشؤون العالمية، تزداد شعبيته. بالنسبة إلى رئيس يحتاج بشدة إلى إنقاذ شعبيته التي بلغت أدنى مستوياتها في أبريل، يبدو المشهد واضحاً. مع استعداد فرنسا لتولي رئاسة مجموعة العشرين هذا الخريف، ومجموعة الثماني في السنة المقبلة، يوجد مجال كبير لإجراء جولة جديدة من المغامرات العالمية، لكن قد يعني ذلك تراجع الإصلاحات المحلية.

Ad

ظهر هذا الرابط بين الأمور للمرة الأولى حين ترأست فرنسا بالتناوب الاتحاد الأوروبي مدة ستة أشهر في المنتصف الثاني من عام 2008. بعد ذلك، وصل ساركوزي النشيط إلى موسكو للتفاوض بشأن وقف إطلاق النار بين روسيا وجورجيا، ثم أطلق رداً قوياً باسم الاتحاد الأوروبي في موضوع الأزمة المالية العالمية من باريس ( مع مساعدة صغيرة من غوردون براون البريطاني كما اعترف ساركوزي). بعيداً عن عقد اتفاق لمجرد جذب الأنظار، نجح ساركوزي في الظهور بصورة صانع السلام والمنقذ المالي، على الأقل في نظر الرأي العام الفرنسي. خلال فترة الستة أشهر تلك، ارتفعت شعبيته من 38% إلى 46%، وفقاً لشركة استطلاعات الرأي "أوبينيون واي".

منذ ذلك الحين، واجه ساركوزي صعوبة في إثبات نفسه بعد أن سُلب منه برنامج الرئاسة الأوروبية الرسمية. لم تحقق دعوته إلى عقد مؤتمر شامل عن عملية السلام في الشرق الأوسط في باريس أي نتائج. كذلك، اختفى الاتحاد المتوسطي الذي أطلقه عن الأنظار. عام 2009، تراجع عدد الزيارات الرسمية الخارجية بنسبة 40% عام 2008 – وبالتالي تراجعت نسبة تأييده في نهاية العام بست نقاط. كلما ازداد تركيز ساركوزي على المسائل المحلية، ينتشر الاستياء العام بين الفئات المختلفة: الأساتذة، والطلاب، وسائقو القطارات، والعمّال في المصانع، والقضاة... لقد نزلوا جميعاً إلى الشوارع احتجاجاً على الوضع.

لا شك في وجود عوامل أخرى أثرت على شعبية ساركوزي، لم يساعده الركود الحاصل، ولا تفاقم مشكلة البطالة، ولا انتشار الأحكام السياسية الخاطئة، منها تلك المتعلقة بحياته الشخصية، لكن يبدو أن الفرنسيين مازالوا مستعدين لشكره على الجهود الدبلوماسية الحثيثة التي لم تعد معتمدة في الشؤون المحلية. في استطلاع رأي حديث في مجلة "باري ماتش"، اعتبر 45% من المشاركين أنّ ساركوزي قادر على إصلاح فرنسا، في حين اعترف 70% منهم بأنّه دافع عن بلاده جيداً في الخارج.

في الواقع، يبرع ساركوزي في تحويل الجهود الديبلوماسية إلى انتصار شخصي. لقد أظهر مهاراته التي تخدم مصالحه الشخصية خلال قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة في بروكسل بشأن أزمة الديون في منطقة اليورو. ادعى ساركوزي حينها أن "95% من النص" الذي اعتمدته جماعة اليورو لإنقاذ اليونان "كان فرنسياً"، وهو تصريح مهم لم تركز عليه وسائل الإعلام الفرنسية. نقلت صحيفة "لو فيغارو"، من دون استعمال أي لهجة ساخرة، تعليقاً أدلى به ساركوزي أمام أحد المستشارين: "في اليونان، يسمّونني "المنقذ".

من حظ ساركوزي، ستتولى فرنسا في نوفمبر رئاسة مجموعة العشرين، مدة 12 شهراً. وفي عام 2011، ستتولى رئاسة مجموعة الثماني. عادةً ما يمرّ "رؤساء" هذه التجمعات العالمية غير الرسمية مرور الكرام: لكن من كان يعلم مثلاً أن فرنسا ستأخذ رئاسة مجموعة العشرين من كوريا الجنوبية؟ لكن ساركوزي ليس من النوع الذي يفوّت أي فرصة لإبراز نفسه على الساحة العالمية. لقد بدأ منذ الآن التخطيط لاجتماعات في زوايا الأوساط الرسمية الفرنسية للاستفادة القصوى من مجموعة العشرين. يريد الرئيس اتفاقاً جديداً مشابهاً لاتفاقية "بريتون وودز "لإعادة صياغة الهندسة المالية الدولية بالإضافة إلى قوانين إضافية متعلقة بـ"الرأسمالية المالية". كذلك، يأمل ساركوزي في استغلال مجموعة العشرين لتأدية دور رائد في المسائل الدبلوماسية مثل التعامل مع طموحات إيران النووية.

في ما يتعلق بإدارة الأزمة، حتى معارضي ساركوزي يعترفون بقدرته على جذب الانتباه واستخلاص القرارات. لكن في سعيه إلى استغلال رئاسة مجموعة العشرين بهدف إنعاش شعبيته قبل الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2012، لن يفوّت ساركوزي أي فرصة للدفع نحو تحقيق أمور تتصدر العناوين وترضي الجمهور. المواضيع التي سيركّز عليها معروفة: المضاربون، والتجار، ووكالات تقييم القروض، صناديق التحوط، الضرائب. تعلّم بعض أصدقاء ساركوزي الخارجيين أن يتجاهلوا رغبته في إرضاء الجماهير المحلية من خلال إطلاق خطابات نارية ضد السوق، لأنه لا يدعم كلامه بالأفعال دائماً. لكنّ اللعبة الخفية قد تجعله شريكاً مخادعاً أو حتى متهوراً. في بروكسل، تسمّيه بعض الشخصيات الكبرى منذ الآن "الملك نيكولا".

يكمن الخطر الآخر في أن الإفراط في النشاطات الخارجية قد يتحول إلى مصدر إلهاء عن الإصلاح الاقتصادي. حين تبذل بقية دول أوروبا جهوداً هائلة لتخفيض العجز، تظهر فرنسا وكأنها الدولة الكبيرة الوحيدة التي تحتاج إلى اتخاذ خطوات طارئة، لكنها لم تفعل ذلك. من المتوقع أن يصل عجز الموازنة في فرنسا، عام 2010، إلى 8%، وهي نسبة عجز أقرب إلى اليونان (9.3%) منه إلى ألمانيا (5%). يفاوض ساركوزي بشأن رفع سن التقاعد المثير للجدل إلى ما فوق عتبة الستين عاماً، وهو يريد بحسب قوله عقد اتفاق بحلول شهر يوليو. كذلك، اقترح ساركوزي صياغة قانون لتخفيض العجز وإدراجه في الدستور. لكن حتى الآن لا وجود لأي دفع حقيقي نحو تطبيق سياسة التقشف التي توشك على الانطلاق في إسبانيا، وبريطانيا، وإيطاليا، وحتى ألمانيا. يبدو أنّ الفرنسيين يراهنون بكل تفاؤل على أن يتكفّل النمو بتحقيق معظم الإصلاحات.

فضلاً عن ذلك، من المفاجئ أن يعتبر المسؤولون أنه بمجرّد إجراء إصلاح واحد على مستوى معاشات التقاعد، لا داعي لاقتراح أي إصلاح اقتصادي مهمّ آخر. برأيهم، سبق ووضع ساركوزي النقاط الأساسية لتحسين القدرة التنافسية الفرنسية.  قال أحد المستشارين: "في السنة المقبلة، سنحسّن الإصلاحات القائمة أو سنعززها بدل البدء بأي خطوة جديدة. في جميع الأحوال، لا وقت لإقرار تشريعات جديدة في البرلمان قبل عام 2012". بناءً على هذا المنطق، لا حاجة إلى المبالغة في النشاطات الديبلوماسية اليومية لاستعمالها كعذر للجمود المحلي.

يملك ساركوزي سبباً آخر لعبور العالم مجدداً. صادف أنّ أبرز خصم اشتراكي محتمل له في انتخابات العام 2012 هو في الوقت نفسه رئيس صندوق النقد الدولي، مقره واشنطن. في الفترة الراهنة، يجول دومينيك شتراوس كان العالم في محاولة منه لحل أزمة منطقة اليورو. تشير استطلاعات الرأي إلى أن شتراوس سيحصل على فرصة أفضل لهزم ساركوزي أكثر من مارتين أوبري، القائدة الاشتراكية. إلى جانب أوبري، قد يتحوّل ساركوزي إلى شخصية عالمية مرموقة. إلى جانب رئيس صندوق النقد الدولي، لن تكون الفروق بين الطرفين واضحاً جداً.