صوّت البرلمان الفرنسي أخيراً لمصلحة مشروع قانون يحظر النقاب حظراً عاماً في فرنسا، ووافقت الأغلبية البرلمانية "355" عضواً على المشروع مقابل معارضة عضو واحد، وسيكون القانون نافذاً بعد إقراره من مجلس الشيوخ في سبتمبر المقبل، يجرم القانون ارتداء النقاب ويعاقب المرأة المخالفة بـ150 يورو غرامة أو يلزمها بمتابعة دورة تأهيلية في المواطنة والتعريف بالحقوق والواجبات، ويتشدد أكثر مع الرجل الذي يفرض النقاب على المرأة كالأب والزوج لتصل الغرامة إلى 30 ألف يورو والسجن لمدة عام، ويضاعف العقوبة إذا كانت الفتاة قاصراً، ولا يستثني القانون حتى النساء السائحات المنقبات مما يشكل قيداً أمام زيارة العائلات الخليجية المنقبة إلى باريس، وإذا ما تم إقرار القانون فإن فرنسا تصبح ثاني دولة أوروبية تحظر النقاب بعد بلجيكا التي حظرت النقاب والبرقع في الأماكن العامة والدوائر الرسمية منذ عدة شهور.

Ad

انتشار النقاب أصبح أمر مقلقاً للأوروبيين خصوصاً بين بنات الجيل الثالث من المهاجرين العرب والهنود والباكستانيين، وقد انشغلت برلمانات إسبانيا وإيطاليا وسويسرا وهولندا بمناقشة موضوع النقاب، وإن لم يصل الأمر إلى تمريره كقانون، لكن المزاج الأوروبي العام لا يستسيغ النقاب ولا يتقبل منظر المنقبة في الشوارع الأوروبية، إذ يرون فيه شكلاً من أشكال التمييز الديني ونوعاً من الإصرار على هوية ثقافية رافضة للاندماج في المجتمع الأوروبي ومظهراً استعلائياً على الآخرين، إضافة إلى أنهم يعدونه انتهاكاً لكرامة المرأة الشخصية. وإذا نجحت فرنسا في إقرار القانون فقد تمتد حمى حظر النقاب إلى بلدان أوروبية أخرى، كما يخشى بعض الإسلاميين أن يمتد ذلك إلى حظر الحجاب أيضاً، في الجانب الآخر هناك جماعات وتنظيمات سياسية أوروبية، وهي قوى اليسار والخضر والشيوعيين الذين يعارضون القانون ويرفضون المشاركة في التصويت، وذلك بالرغم من معارضتهم الشديدة للنقاب، كما أن هناك عقبتين رئيستين أمام القانون الفرنسي:

 العقبة الأولى: "المجلس الدستوري الفرنسي" الذي سينظر في مدى مطابقة القانون لنصوص الدستور، وكانت الحكومة الفرنسية استبقت الأمر واستفتت المجلس بشأن القانون، وأفتى المجلس منذ مدة بأنه "لا أساس قانونيا لا جدل حوله"، يتيح استصدار قانون يمنع النقاب منعاً تاماً بما في ذلك الشارع "الفضاء العام"، وبدلاً من ذلك اقترح المجلس على الحكومة: قانوناً يمنع النقاب في المكاتب والدوائر الرسمية ووسائل النقل والبنوك والمدارس لاعتبارات تتعلق بالأمن والحاجة إلى الكشف عن الوجه لدواع أمنية، غير أن الحكومة فضلت المخاطرة لأسباب سياسية انتخابية.

 العقبة الثانية: "المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان" يمكن أن تحتج على إقرار قانون من هذا النوع يقيد حق التعبير الديني والتصرف الفردي، مادام أنه لا يضر بحقوق الآخرين ولا يمس بالمصلحة العامة أو الأمن أو النظام، وكانت "منظمة العفوالدولية" أصدرت بياناً اعتبرت فيه منع النقاب "انتهاكاً لحرية التعبير وحرية النساء الدينية اللاتي يرتدين النقاب كشارة دينية أو تعبير عن الهوية"، وقالت: "إن هذا الحظر المقترح يزيد من التمييز الذي تعانيه بالفعل النساء المسلمات، ويشكل خطورة عليهن تتمثل في مكث النساء في بيوتهن، ويحد من أنشطتهن العملية والتعليمية"، وأضاف البيان: "كقاعدة عامة، الحق في حرية الاعتقاد والتعبير يؤكد أن كل البشر يجب أن يكونوا أحراراً في اختيار ما يلبسونه وما لا يلبسونه، لا يمكن تقييد هذه الحقوق ببساطة لأن بعض الأشخاص حتى لو كانوا أغلبية، يجدون نوعاً من الزي مثيراً للاعتراض أو مسيئاً".

 ويلزم القانون الدولي، الدول بحماية النساء ضد الضغوط والتهديدات في ارتداء النقاب، وفيما يتعلق بمخاوف الدول الأمنية من النقاب، يقول البيان: "يمكن تلبية هذه المخاوف من خلال وضع قيود محددة بشأن تغطية كامل الوجه في الأماكن المصنفة على أنها مرتفعة الخطورة"، ويستطرد البيان لتوضيح سلبيات قانون حظر النقاب فيذكر: "أن النساء اللاتي يرتدين النقاب حالياً سيصبحن محاصرات في منازلهن، وأقل قدرة على العمل أو الدراسة أو الحصول على الخدمات العامة".

 وطالبت المنظمة الحكومات بالنظر في تعزيز الجهود لمكافحة التمييز الذي تواجهه النساء المسلمات في كل من مجتمعاتهن، وفي المجتمعات الخارجية التي يعشن فيها، وعلى تشجيع النساء على اتخاذ خياراتهن بدلاً من تضييق نطاق الخيارات المتاحة لهن.

 في تصوري أن ما انتهى إليه البيان هوالأسلوب الأجدى في معالجة قضية النقاب وتداعياتها الاجتماعية، بدلاً من الأساليب الإدارية والقانونية الصارمة، فالتشريع القانوني المجرم للنقاب لن يحل القضية بل سيفاقمها، وسيعزز رد فعل مقاوم يتحدى قرار المنع، وكما يقول رضوان السيد: "المنتقبات في أوروبا قلة قليلة، والإصرار على منع النقاب يزيد من عددهن من أجل التحدي والمغامرة وإظهار المقاومة للتغريب والتأكيد على الهوية والخصوصية". لقد كنت أرى ومازلت: أنه لا مدخل للقانون في الأمور الشخصية والاجتماعية والدينية، فالقضية- هنا- تتعلق بثقافة موروثة وقناعات دينية حاكمة لعقول ونفوس ترى في النقاب "أمراً إلهياً" يجب الالتزام به، هذه الثقافة وتلك القناعة لا يمكن تغيرهما بالقانون والسلطة بل لابد من بذل جهود ثقافية لتوعية المرأة، وتغيير قناعاتها وتثقيفها بالمفاهيم الدينية الصحيحة، خصوصا أن 99% من علماء المسلمين لا يرون النقاب واجباً دينياً.

 إن تمسك المنقبات وأولياء أمورهن بالنقاب، إنما هو بقايا رواسب ثقافية موروثة يمكن تغيرها عبر الحوار والتفاعل الثقافي الصحي، ومن الغريب أن يصدر تجريم النقاب من عاصمة الحرية والثقافة والتنوير، والجالية المسلمة فيها هي الأكثر انفتاحاً واندماجاً وهي أكبر جالية مسلمة في أوروبا- 5 ملايين مسلم– والمنتقبات لا يشكلن ظاهرة في أوروبا، بل هن أقلية ضئيلة لا تستدعي قانوناً بشأنهن.

قد يفسر البعض هذا الكلام بأنه دفاع عن النقاب، وليس الأمر كذلك، فقد كنت ومازلت معارضاً له، وتعرضت لحملات تشويه من قبل المدافعين عنه، لكني ضد القانون الذي يحظر النقاب مثلما كنت ضد الثقافة التي تفرض النقاب، لأني مع حرية الإنسان في اختيار زيه دون قسر أو إرغام، إذ ليس من حق أحد التدخل في خيارات الإنسان الخاصة.

 والنقاب لم يشكل قضية من قبل لا في أوروبا ولا عند المسلمين، لكنه تحول إلى قضية إشكالية معاصرة بعد تزايد حوادث العنف والتطرف وتصاعد العمليات الإرهابية في أوروبا والبلاد العربية والإسلامية، إذ أصبح النقاب مرادفاً للتطرف ورمزاً للتشدد وباعثاً على التخوف، وساهمت قوى اليمين الأوروبي في تغذية المخاوف الأوروبية من النقاب باعتباره انتهاكاً للقيم الثقافية الأوروبية، وهذا ما يفسر فزع الحكومات الأوروبية ولجوئها إلى مشاريع حظر النقاب.

 وليس الأمر مقتصراً على أوروبا ففي الدول العربية والإسلامية هناك أيضاً مشكلة مع النقاب، ومازلنا نذكر أن فضيلة شيخ الأزهر محمد سيد طنطاوي- رحمه الله- زار أحد الفصول الدراسية ورأى طالبة منقبة، ساءه الوضع فأصدر قراراً بمنع النقاب داخل الفصول الدراسية والمدن الجامعية التابعة للأزهر، وقال: النقاب ليس فريضة إسلامية إنما يجب على المرأة ستر جميع جسدها ماعدا الوجه والكفين، وأيد مجمع البحوث الإسلامية قرار شيخ الأزهر كما أصدر مديرو الجامعات المصرية قراراً مماثلاً لكن القضاء المصري كان في صف الطالبات المنتقبات عادة.

 ومنذ أيام قرأنا أن وزير التعليم العالي السوري أصدر قراراً بمنع المنتقبات من الجامعات والمعاهد بسبب مطالبة الأهالي بمنع ارتياد المنتقبات للجامعات، وأما تونس وتركيا فلم تحظرا النقاب فحسب، بل الحجاب أيضاً، في المؤسسات الرسمية والتعليمية خاصة، الأساليب البوليسية في منع النقاب لا أراها مجدية، وهناك سوابق تاريخية من عهدي أتاتورك ورضا بهلوي منذ 60 عاماً تثبت فشل الأسلوب البوليسي القسري، لقد حاول أتاتورك ورضا بهلوي نزع الحجاب بالقوة، فماذا كانت النتيجة؟!

اليوم نرى الإيرانيات يفرض عليهن الحجاب بالقوة عبر الشرطة الدينية التي أصدرت تحذيرات لـ62 ألف امرأة بسبب عدم ارتدائهن الحجاب بالطريقة الصحيحة! في المقابل وجدنا الشرطة الدينية التي تطارد النساء في بعض البلاد العربية والإسلامية لإلزامهن بالنقاب أوجدت نفوراً عاماً وتمرداً ضد النقاب!

 "النقاب" ثقافة موروثة راسخة، والأجدى من محاكمة المنتقبة وتغريمها أو مضاعفة العقوبة على وليها، تفكيك هذه الثقافة المتمثلة في مناهج تعليمية ترى في المرأة: كائناً خطراً يجب تغطيته كاملاً بغطاء ثقيل، إما خوفاً منه وإما خوفاً عليه، خوفاً من الافتتان به كونه مصدراً للغواية والشرور والانحراف الأخلاقي، أو خوفاً من التحرش به أو اغتصابه مما يورث عاراً لا يمحوه إلا "جريمة الشرف" كما هو حاصل في بعض المجتمعات.

 ثقافة النقاب مرتبطة بـ"ثقافة فتنة المرأة"، ولها جذور عميقة في تراثنا الفقهي الممتد إلى القرن الخامس الهجري، انظر إلى إمام عظيم مثل الإمام الغزالي، ماذا يقول في كتابه الذائع الصيت "إحياء علوم الدين"؟! يقول هذا الإمام الكبير: القول الجامع في المرأة، أن تكون قاعدة في قعر بيتها، لازمة لمغزلها، لا تخرج من بيتها ولا ترى الرجال ولا يراها الرجال، فإذا اضطرت للخروج، خرجت خفية في هيئة رثة"... فقبل أن تحظروا النقاب وتحاسبوا المنتقبات، حاكموا الثقافة المظلمة وراء النقاب.  

* كاتب قطري