الانسان والشاعر الذي في داخله

نشر في 19-11-2009
آخر تحديث 19-11-2009 | 00:00
 فوزي كريم السؤال عن العلاقة بين الشاعر والسياسي مربكٌ، لأنه ينطوي على فراغاتٍ لا يمكن مَلْئُها. هل المقصود الشاعر أم الشعر؟ وما المقصود بالعلاقة؟ وما تحديد السياسي، والسياسة؟ هل تصويتي في الانتخابات سياسة؟ أم كتابتي عموداً عن قتلةِ الإرهاب سياسة؟ أم أن السياسة نشاط فعلي في المعترك الديمقراطي، أو احتجاج فعلي ضد سلطة الدكتاتور؟ أم هي الانتساب العقائدي الذي يقترح الفكر والفعل؟ وهل المقصود أن يقتصر الفعل على الشعر، لا على الشاعر؟ أي على النص لا على الإنسان؟ وهل ثمة إنسان، وشاعر على شيء من العزلة داخله؟

إذا سألت: هل يصلح الشاعر أن يكون عضواً ناشطاً في حزب؟ فسنستدرك: هل تقصد الإنسان الذي ينطوي على شاعر في داخله، أم الشاعر؟ هذا إذا لم نكن نؤمن بأن مهمة الإنسان هي مهمة الشاعر الذي بداخله، بالضرورة...الخ.

يحسن بي أن أبدأ ببساطة من نقطة الصفر. كان الشاعر منشداً في الأصل. الكلمات والألحان تكفيانه للتعبير عن مشاعره. ثم أصبحتْ المشاعرُ أكثرَ تعقيداً، فلم تعد تصلح للغناء. فاكتفى بموسيقى الكلمات، لا للتطريب وحده، بل لاستثارة مشاعره ونبشها. ثم استيقظ الفكر، وليد الخبرة الخارجية والداخلية للإنسان. وصار الشعر سبيلَ هذا الفكر الوحيد للتعبير عن لحظة التحامه مع المشاعر، حين يحتاج إليها أو تحتاج إليه. ثم صارت المشاعر تولّد الفكر. والفكرُ يولّد المشاعر. وظل الشعر وحده موقد احتكاكهما ببعض، واحتراقهما. مهمةٌ خُصّ بها الشعر دون النثر، منذ كان الشعر وليد الأغنية، المعبرة بدورها عن العاطفة الغامضة، والفكرة الغامضة.

هذه المهمة المعقدة في التعامل مع اللغة صارت مصدر خلافات في التأويل واجتهادات. وستظل كذلك. وسيظل الشاعر موضع خلاف واجتهاد، بفعل مهمته التي قد لا يُحسن فهمها هو ذاته. وهذا الشاعر فاعلية من فاعليات عديدة داخل الإنسان. ولكنها فاعلية استثنائية ونادرة. وسطوتها عليه لا تكتمل إلا لحظة التفكير في قصيدة، أو لحظة كتابة قصيدة، في حين لا تظهر حتى في لحظات قراءته لها أمام الجمهور. لأنه حين يقرأ للجمهور يتحول إلى وسيطٍ بارعِ الإلقاءِ، أو سيئِه.

أستنتج من ذلك، أن الإنسان الذي ينطوي على شاعر في داخله، سيواصلُ أنشطةَ الحياة، شأنه شأن الجميع، إذا استطاع ذلك. أي إذا استطاع أن يُبقي الشاعر الذي في داخله في عزلة. في الشعر العربي ظلّ الأمرُ مستحيلاً، إلا في النادر. لأن الشاعر وُظّف لخدمة مصالح الإنسان الذي فيه، أمام مُتطلبات الحياة العملية والنفعية (عقيدة، معيشة، مصلحة، وجاهة، شهرة...!)، حتى مُسختْ هويتُه النادرة. صار، بدل أن ينضجَ في المعترك الداخلي الذي أشرت إليه، يُمسخ وسيلةً رخيصةً لخدمة معترك المصالح، أفكاراً أو أفعالاً!

المخاطرُ بين الفعل السياسي والفعل الشعري متبادلة. فالمسعى الغرائبي للشاعر مسعى كثير الأهواء. وهي في جملتها لا تصلحُ منهجَ حياة عملية. وفرضُها، أو حتى افتراضها، في نشاط سياسي، قد يسبب كوارث على حساب الإنسان. وكذلك الفعلُ السياسي. فهو كثير الإغواء في السعي إلى السلطة، والسعي إلى الجاه، والثروة. وجميعها مقوّضات لأية فاعلية شعرية. أما حق المشاركة في أنشطة الحياة، التي تسمى أحياناً سياسية، فأمر بديهي لدى كل إنسان، شاعراً كان أو لم يكن.

الرئيس ماو كان شاعراً، ولكن شعره لم يكن إلا النشيد الإعلامي لنشاطه السياسي. في حين استطاع رئيس آخر يكتب الشعر، هو ليوبولد سنغور رئيس السنغال السابق، أن يتركَ الشاعرَ داخله في عزلته مع قصيدته، دون أن يوفرَ له حياةً مشتركة مع السياسي. ولذلك نُسي الشاعر في ماو، وبقي الزعيم السياسي. في حين ظل سينغور الشاعر البارز، ولم يختفِ السياسي فيه من تاريخ السنغال . 

back to top