حدود الدم التركي في الصراع العربي- الإسرائيلي

نشر في 06-06-2010 | 00:01
آخر تحديث 06-06-2010 | 00:01
 ياسر عبد العزيز  استأثر الهجوم الإسرائيلي على "قافلة الحرية"، فجر الاثنين الماضي، باهتمام كل وسائل الإعلام في المنطقة والعالم أجمع، لكن أحد أفضل العناوين المعلقة على هذا الحدث الإجرامي قاطبة، كان عنواناً يقول: "دم تركي في حلبة الصراع العربي- الإسرائيلي"؛ فقد دخل هذا الدم على خط الصراع، الذي ظل مشتعلاً لأكثر من ستين عاماً، وهو تطور مهم ربما يؤثر في مساره تأثيراً واضحاً، ويعيد تشكيل بعض ملامحه.

تسجل صفقات الأسلحة التي تستوردها إسرائيل سنويا من تركيا نحو 1.5 مليار دولار، تشكل أحد مجالات التعاون الاستراتيجي الرفيع، الذي يسمح للدولتين بتبادل المعلومات الاستخباراتية في شأن "دول معادية".

ليس هناك خلاف على عمق العلاقات بين تركيا وإسرائيل، وليس من الحكمة توقع أن تنهار هذه العلاقات ببساطة، خصوصاً أن المؤسسة العسكرية التركية تعول عليها كثيراً في مواجهة استحقاقات أمنية واستراتيجية.

لكن هذه العلاقات الاستراتيجية تعرضت لمسلسل من الهزات المتتابعة منذ العدوان الإسرائيلي على غزة قبل نحو 17 شهراً، أو منذ قررت تركيا أن تدشن تموضعها في قيادة تفاعلات منطقة الشرق الأوسط.

دخل أردوغان في مشادة عنيفة مع بيريز في منتدى دافوس مطلع العام الفائت ومنذ تلك الواقعة، التي استقبل إثرها أردوغان في بلاده كبطل، وأُعيد إنتاج صورة تركيا في العالمين العربي والإسلامي كدولة "صديقة ونزيهة" في أدنى الحدود، ودولة إسلامية سنية "بطلة ومخلّصة" في أقصاها، ظلت العلاقات الإسرائيلية مع دولة الخلافة العثمانية تتراجع، من دون أن تنقطع أو تذهب إلى طريق بغير رجعة.

لكن ما جرى الأسبوع الماضي، في المياه الدولية قبالة غزة، والدماء التركية التي سالت، أثناء الهجوم الإسرائيلي على سفينة ترفع العلم التركي، وتحمل ناشطين غير مسلحين، إنما يدفع تلك العلاقات إلى حيث يجب أن تخضع للمراجعة، كما قال المسؤولون الأتراك.

حذر أردوغان من أن إسرائيل "على وشك خسارة أهم حلفائها بالمنطقة"، فيما ذهب غول إلى أن بلاده "لن تنسى هذا الهجوم"، وطلب أوغلو "تحقيقاً وتفسيراً"، فيما لوح بولنت أريغ بأن "تركيا قد تحد من علاقتها بإسرائيل".

يبدو أن آليات جديدة طرأت على الصراع العربي- الإسرائيلي على وقع تلك المجزرة، فإسرائيل باتت مضطرة إلى رفع الحصار على غزة، أو تخفيفه في أدنى الحدود، بعدما فقد أي ذريعة أخلاقية أو قانونية أو سياسية لاستمراره، وبعدما ظهر عجز القوة نفسها عن إدامته، في حال تكرر قدوم السفن لخرقه.

من تابع عن قرب ما جرى في الاجتماع الوزاري العربي، الذي عقد في القاهرة ليل الأربعاء والخميس الماضيين، للرد على حادث "قافلة الحرية"، يعرف أن تغيراً مهماً قد حدث، وأن الأحداث الأخيرة أتت بتركيا في أحد أفضل المواقع تمركزاً وتأثيراً في النظام العربي.

لكن الأمر لم يقتصر فقط على هذا التطور الآخذ في التصاعد، بل امتد ليعيد صياغة ملامح استقرت طويلاً في المقاربات العربية للصراع العربي- الإسرائيلي؛ فقد زاد تأثير الدور القطري، وبات يعمل بانسجام واضح ضمن ما يعرف بـ"محور الممانعة"، في ظل تنسيق كبير مع الجانبين السوري والتركي، وهو التنسيق الذي تبلور واضحاً منذ قمة إسطنبول، التي جمعت قادة الدول الثلاث في العاشر من مايو الفائت.

جديد صراع الشرق الأوسط يظهر كذلك في تضاؤل تأثير دول ما يسمى بـ"محور الاعتدال" وتراجع حظوظها وذرائعها، إذ أظهرت السعودية ميلاً واضحاً خلال الاجتماع الوزاري نفسه نحو مواقف دول "محور الممانعة"، وأبدت تشدداً أوضح ضد أفكار التساهل أو التركيز على الجوانب القانونية والإجرائية التي روج لها الجانبان المصري والأردني. بل إن القاهرة نفسها كانت مضطرة قبل الاجتماع إلى الإعلان عن فتح معبر رفح، وهو الأمر الذي لا يخدم سياستها في الضغط على "حماس"، لحملها على التصالح مع السلطة الفلسطينية. ولذلك، فقد كان الطريق ممهداً، بعد مفاوضات وتباينات وخلافات ماراثونية، لخروج الاجتماع بدعوة إلى "كسر الحصار" لا "رفعه"، وبالتركيز على مقولة خادم الحرمين الشريفين بأن "المبادرة العربية لن تبقى على الطاولة بلا نهاية"، وبإحالتها إلى القمة العربية المقبلة، لبحث إمكانية بلورة موقف عربي جديد إزاء الصراع.

أعطى الدم التركي زخماً جديداً للصراع العربي- الإسرائيلي، وغيرت جريمة "قافلة الحرية" قواعد اللعبة مرحلياً، وبات السقف الذي يصل إليه الأتراك في التعاطي مع إسرائيل أعلى من محاولة "دول الاعتدال العربية" إدراكه، وأكثر اقتراباً مما يأمله، أو يقدر عليه، "الممانعون".

والأمل أن يعيد النظام العربي بناء نفسه وتصليب موقفه إزاء الصراع، عبر اجتراح رؤية واستراتيجية قومية واقعية وطموحة في آن، وأن يحسن توظيف الأدوار الإقليمية، سواء كانت تركية أو إيرانية، لمصلحة قضاياه، لا أن يتحول أداة لها أو ساحة واسعة تمارس فيها أفعالها وألعابها.

ثمة خسائر كبيرة منيت بها إسرائيل من جراء ما حدث، وثمة مكاسب صبت في مصلحة أطراف "محور الممانعة" في الجانب العربي، التي يبدو أن عددها زاد وتأثيرها أيضاً، والأهم من ذلك أن قواعد اللعبة تغيرت مرحلياً، لكنها لن تتغير استراتيجياً، إلا عندما يمسك العرب بزمام قضيتهم، ولا يعولون، في حسمها، على دماء سواهم.

* كاتب مصري

back to top