قال «أبو تمام»... والحسرة تملأ قلبه:

Ad

«نقل فؤادك حيث شئت من الهوى*** ما الحب إلا للحبيب الأول»!

والمطرب «عبدالحليم حافظ» أنشد يصف شعوره بالحب الأول: «أول مرة تحب يا قلبي.. وأول يوم أتهنى.. يا ما على نار الحب قالولي.. ولقيتها من الجنة»!

بالغ عبدالحليم بعض الشيء لكنه غير ملوم في أن يرى الحب جنة، لأن الحب الأول يكون عادة حبا بريئا ساذجا طاهرا لا غاية من ورائه ولا هدف سوى الشوق لرؤية الحبيب، وانتظار تعطفه بنظرة أو كلمة أو ابتسامة عابرة، وكثيرا ما يكون الحب الأول من طرف واحد، يتعذب، يتلوع، يعاني وحده دون أن يحس به أو يدري عن هوى داره الطرف الآخر!

قال أحدهم: «وما هو إلا أن أراها فجأة فأبهت حتى ما أكاد أجيب»!

والحب أيام زمان كان حبا عذريا خالصا يقنع فيه المحب برضا الحبيب دون أي مطمع آخر، وكان يتناسب مع أخلاق الناس وحيائهم في تلك الأزمنة، حيث كان يتعاهد الحبيبان على الحب والوفاء طول العمر حتى إن لم يتزوجا لموانع كثيرة كانت تحول بين ارتباط كل محب بمحبوبته، ومهما مرت الأيام، وعدت الأيام، يظل كل منهما يذكر الآخر في قلبه ويجري اسمه على لسانه كلما اختلى بنفسه، وتعود له ذكراه في رقة وحنان بين الفينة والأخرى، وقد يلتقيان مصادفة فلا يكون بينهما سوى حديث العيون والنظرات المتبادلة، حديث القلب الذي يتحكم به العقل لأن أحدهما مرتبط بزوج آخر يستحق الأمانة والعفة من زوجته، حتى إن أحب قلبها سواه!

والحب العذري أكثر أنواع الحب لوعة وحرمانا، مع أن في صميمه ألما لذيذا وجميلا، لأن المحب يرتفع بحبه وإخلاصه إلى درجة التضحية بسعادته من أجل من يحب، وهو من الصدق بحيث يخشى على حبيبته من الفضيحة، لذلك تراه يصون شرفها ويحفظ عذريتها كما لو كان أخاها أو أباها، ومع أنه يتألم ويحس لوعة الحرمان كل يوم لكنه يرضى بذلك إيثارا منه لحرمة حبيبته، ومثل هذا الحب يستمر ويدوم طيلة عمر المحبين، فهو نار لا تنطفئ أبدا!

قال أحدهم يشكو اللوعة والحرمان:

«فلازلت ذا شوق إلى من هويته*** وقلبك مقسوم بكل مكان»!

وللإمام «ابن حزم الأندلسي» كتاب جميل اسمه «طوق الحمامة» يعالج فيه سير المحبين ويقارن ما بين الحب من أول نظرة والحب بالتقادم أو بالعشرة، ويبين فيه فضل الحب العذري العفيف والوفاء والإخلاص بين العشاق، وكذلك قسوة الهجر والغدر بينهم، ويخص موت المحبين المعذبين بفصل كامل من كتابه، وهو شخصيا لا يعترف بوجود الحب من أول نظرة ويقول عن نفسه: «ما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة المحبوب لي دهرا، وأخذي معه في كل جد وهزل»!

وهو كلام عميق وصحيح إلى حد بعيد، لأنه لا يرى الحب في الوجه المشرق أو الجسد الجميل، إنما يراه حين ينفذ إلى قلب محبوبته ويقرأ عقلها ويعشق شخصيتها، وكل هذا لا يأتي بنظرة واحدة، ولذلك يرى «ابن حزم» أن الإنسان لا يستطيع الحب لاثنتين ويقول: «وأما ما يقع من أول وهلة ببعض أعراض الاستحسان الجسدي واستطراف البصر الذي لا يجاوز الألوان، فهذا سر الشهوة ومعناها على الحقيقة، وهي على المجاز تسمى محبة لا على التحقيق، وأما نفس المحب فما في الميل به فضل يصرفه من أسباب دينه ودنياه، فكيف بالاشتغال بحب ثان؟!».

رحم الله الإمام الأندلسي «ابن حزم» أشهر وأعظم أئمة زمانه رحمة واسعة، فقد كان «ماخذ راحته على الآخر» وهو يتكلم في كتابه عن الحب وأنواعه ويروي حكايات حدثت له ولغيره من العشاق، ومن حسن حظه أنه لم يعش في زمننا وإلا لقام البعض بتكفيره وتفسيقه، ولاتهموه بأنه يسعى إلى نشر الفاحشة بين شباب المسلمين المحافظين «بطبيعتهم»!

ومن حسن حظه أيضا أنه لم يلحق على زمن الموبايلات والبلوتوث والإنترنت و«الفرفرة» الدائمة في المجمعات التجارية، وهو الزمن الذي انقرض «فيه الحب العذري» وانتحرت العفة على يد بعض الشباب «المؤدب والمتربي أحسن تربية» حيث تصبح فضيحة المحبوبة الساذجة بجلاجل، كلما وثقت بمن تظن أنه يحبها حبا جنونيا وأنه أحرص عليها من نفسها، وأكثر خوفا على سمعتها من أهلها، وما هي إلا أيام حتى تجد فيه المبتز الذي يجبرها على ارتكاب الرذيلة وإلا... يخلى اللي ما يشتري يتفرج على صورها ويستمع لمحادثاتها!

إنه حقا شباب «محافظ بطبيعته».. لا مكان للعفة والحياء في قاموسه العشقي!

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء