حديقة الإنسان: ساعة الظهيرة

نشر في 31-07-2009
آخر تحديث 31-07-2009 | 00:00
 أحمد مطر لم نألف أن تمطر سماؤنا ساعات أنيقة، خصوصا أننا خارج موسم الأمطار، أما من يملك ساعة ثمينة كهذه، في محلة متربة كهذه، فأنا على يقين من أنه سيربطها حول عنقه بالسلاسل، ويعض عليها بأسنانه، ويسهر طول الليل على حراستها، وقد يفقد أمه وأباه ببساطة، لكن من المستحيل أن يفقدها.

ما إن تحل العطلة الصيفية، حتى يبدأ دوامنا، أنا وصديقي ناصر، في المكتبة العامة بمحلة الجمهورية.

لم نكن قد أنهينا الابتدائية، وكان ولعنا هذا بزيارة المكتبة مثار غيظ وسخرية أقراننا، لكننا ألفنا أن نتقبل سخريتهم باعتبارها ثمناً معقولاً لما نستثيره فيهم من غيظ.

كنا نمكث في المكتبة حتى الظهر، لنغادرها على طريق طويل مترب إلى بيت ناصر في الموفقية، أو نواصل حتى بيتنا في الأصمعي، فنتغدى ونعبث أو نغفو قليلاً، ثم نعود عصراً إلى قطع الطريق ثانية إلى المكتبة.

وفي واحدة من أوباتنا، حيث كانت شمس الظهيرة تنفخ اللهب في تراب الطريق، لاح لنا على بعد عشرات الأمتار بريق ساطع يخطف البصر، سرعان ما تبين لنا أنه انعكاس ضوء الشمس على زجاج ساعة يد أنيقة تتوسد التراب.

في تلك الأيام، كان العثور على مثل هذه اللقية بمنزلة العثور على كنز، فأقل ثمن لتلك الساعة كان يعادل ثلاثة أضعاف مصروفنا نحن الاثنين طوال عام كامل!

صاح ناصر مبهوراً، وهو يهم بالهرولة نحوها: ساعة!

قلت له وأنا أجذبه بلطف: على مهلك... لقد رأيتها أنا أيضاً.

التفت إليّ ووجهه محتقن من فرط التأثر: لم أكن أنوي الاستئثار بها.

قصرت خطواتي وأجبرته على مجاراتي في البطء، وهمست في أذنه، ليس عندي شك في سلامة نيتك... لكنني لا أستطيع الثقة بنيات الآخرين، خصوصاً أولئك الغرباء الذين لم نتشرف برؤيتهم من قبل.

لهث ناصر متأثراً، فيما كنا نقترب حثيثاً من الساعة: ما دخل الغرباء في هذا؟

لم ألتفت إليه، لكنني ابتسمت قائلا: يا ناصر... لم نألف أن تمطر سماؤنا ساعات أنيقة، خصوصا أننا خارج موسم الأمطار، أما من يملك ساعة كهذه، في محلة متربة كهذه، فأنا على يقين من أنه سيربطها حول عنقه بالسلاسل، ويعض عليها بأسنانه، ويسهر طول الليل على حراستها، وقد يفقد أمه وأباه ببساطة، لكن من المستحيل أن يفقدها.

ولكي أخرجه من دائرة الألغاز، همست له: انظر بعفوية إلى جانبي الطريق، وقل لي... ألا ترى أحداً جالساً هناك؟

رفع بصره إلى السماء الحارقة، ثم خفضه ومشط جانبي الطريق بلا تكلف... وهمس: هناك أربعة شبان على الجانب الأيمن، يجلسون مستندين إلى الحائط.

قلت له بثقة: ليس هناك غيرهم على طول الشارع.

قال ناصر مؤكداً: لا أحد غيرهم. كيف عرفت؟!

أجبته مستفهماً بإنكار: هل تعتقد أنهم قد جلسوا يتشمسون في هذا الوقت درءاً للبرد القارس؟ إنهم ينتظروننا يا صاحبي. وأنا لن أخيب ظنهم.

تساءل ناصر: ماذا ستفعل؟

قلت له ببرود لا يليق بكرامة الشمس المجتهدة: سترى... كل ما عليك هو أن تمشي ببطء. أصبحنا على بعد خطوتين من الساعة. قلت لناصر محذرا: إياك أن تنحني لالتقاطها.

حملق بي متعجبا، لكنني صعقته بما هو أعجب، إذ رفعت رجلي عاليا بسرعة خاطفة، ثم هويت بقدمي على الساعة بكل قوة، فاستحال زجاجها نثاراً، واندفعت النوابض والتروس من جوفها نحو كل الجهات.

وبلمح البصر، خيمت علينا ظلال الشبان الأربعة.

كانت عيونهم تقدم بالشرر، وزأر كبيرهم في وجهي: ابن الكلب... ماذا فعلت بساعتي؟!

قلت له متحامياً ببراءة مصطنعة: من كان يدريني أنها ساعتك؟ إنها ملقاة هنا على التراب... لابد أنها قد وقعت من أحد.

زمجر وهو يرفعها عالياً كمن يرفع جثة قتيل: إنها ساعتي أنا... أنظر... إنها مربوطة بخيطي أنا.

كان طرف الخيط المتكوم في يده مربوطا بالساعة فعلاً.

صرخت به أنا هذه المرة: إذن فقد ربطتها لتجذبها عندما ننحني لالتقاطها؟ أليس كذلك؟ تريد أن تضحك... ها؟ اضحك الآن حتى تشبع.

ولأنه فقد شهيته للضحك، فقد بادر هو والثلاثة الآخرون إلى محاولة استيفاء ثمن الساعة من جسدينا الضئيلين، لكننا بعد استيفاء القسط الأول، استطعنا أن نتملص ونطلق سيقاننا للريح.

لم يكفوا عن مطاردتنا إلا بعد اقترابنا من بيوت الموفقية، وعندئذ أبطأنا من سرعتنا، ورحنا، في أثناء لهاثنا، نتحسس كدماتنا الحارقة... لكننا سرعان ما طفقنا نضحك.

قلت لناصر: لقد خسرنا المعركة... لكننا كسبنا الحرب.

سألني وهو لا يزال يضحك: كيف عرفت أنه كمين؟!

قلت بلا تردد: لأنني خبير في مثل هذه المعارك... لقد سبق لي منذ شهور أن ربطت ربع دينار بخيط، ورابطت عند الحائط منتظراً الفريسة. لم تكن فريسة واحدة. لقد كان هناك ثلاثة شبان يمشون بكل وقار، لكنهم ما إن رأوا الورقة النقدية حتى زال وقارهم كله، وانحنوا في وقت واحد، وسقطوا على الأرض معاً... إذ إنني ولله الحمد كنت سريعاً جداً في جذب الخيط.

سألني بذهول: ونجوت؟!

قلت له: لا... طبعاً، لكن ربع الدينار نجا. لقد طبقوا على جسدي كل فنون الضرب، لكنهم لم يستطيعوا مطلقاً أن يفتحوا قبضتي المصرورة على الورقة.

وأضفت متنهداً: كما ترى، فإنني في تلك المرة أيضاً خسرت المعركة وكسبت الحرب.

قال ناصر وهو يموج ضحكته: نصيحة لوجه الله... حاول أن تخسر بعض الحروب من وقت لآخر، وإلا فإن انتصاراتك فيها دائماً لن تبقي في جسدك عظاماً تصلح للاستعمال.

* شاعر عراقي

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top