آمال: الداب الاشهب

نشر في 14-01-2010
آخر تحديث 14-01-2010 | 00:00
 محمد الوشيحي قبل كل شيء، أقدم اعتذاري على طبق من خجل لعدم نشر مقالة الثلاثاء الماضي...

رحمتك يا رحيم. شاهدتُ أمس صوراً قديمة لي أثناء خدمتي العسكرية على الحدود الكويتية - العراقية، تعود إلى نحو ست عشرة سنة. عليّ النعمة أرعَبَتني، ولا حول ولا قوة إلا بالله... إحداها يبدو أنها التُقطت لي ذات عصرية صيف قائظ. ظهرتُ فيها كما الداب* الأشهب، الحَنَش. لم يكن ينقصني إلا أن أتمدد في المساء على ظهري وأرفع رقبتي إلى الأعلى، فتظنني العصافير جذع نخلة هاوية وتقع على فمي فألتهمها بريشها، وفي النهار أتلوّى على صخرة، فإذا مرت غزالة شاردة قفزت وتلوّيت عليها فعصرتها وهشمت عظامها والتهمتها في لقمة واحدة. ولو شاهدني أهل البيئة لنقلوني مباشرة إلى محمية صباح الأحمد. كنت هيكلاً عظمياً طويلاً له حواجب، يضع في طرف فمه سيجارة، كائناً أشهب، نحيفاً، ممطوط القوام، أقرع الرأس، أشعر الذراعين. أعوذ بالله من كآبة المنظر.

ولا أتذكر اسم الأديب المصري الذي سُئل عن مدينته فقال: «أنا من قنا، وقنا... عذاب النار»، يصف شدة حرارتها. ولو أنه عاش معي على الحدود متنقلاً ما بين «سنام» و»البحيث» و»جريشان» لأدرك أن قنا قطعة من الجنة، أو قطعة واحد في الجنة! يا رجل، في صحراء البحيث، سقتها المزن، يمر عليك في اليوم الواحد سبعٌ وعشرون عقرباً وخمس عشرة حية وستة وثلاثون ضبّاً متشرداً. كرنفال. زحمة زواحف. الكتف على الكتف! وفي صحراء جريشان تشعر أن الشمس تتراجع تسع خطوات إلى الخلف ثم تندفع بأقصى سرعتها - وهي تشتم وتلعن – لترتطم برؤوسنا ووجوهنا وجباهنا، وكأننا قتلنا معيلها الوحيد. أحياناً ينتابنا إحساس أن الشمس ساديّة، تتلذذ بتعذيبنا... وأنت تقول لي «قنا عذاب النار»؟ أقول صلِّ على النبي بس ولا تسيّس السياسة، على رأي الدوقة سلوى الجسار. قال قنا قال.

وكانت المواقع الثلاثة المذكورة هي المنفى للضباط المغضوب عليهم والضالين. تماماً كما كان يحدث مع ضباط الشرطة الأسبان المغضوب عليهم، عندما تم نقلهم إلى مدينة الغجر في غرناطة. والغجر، كما هو معروف عنهم، يعشقون العزلة، لا يختلطون بأحد ولا يقبلون الغريب بينهم. وتعال شوف واقرأ حكايات ومذكرات هؤلاء الضباط وعذاباتهم.

وصورة أخرى التُقطت لي وأنا أتناول الغداء في ظلال سيارتي العسكرية وأضع على رأسي غترة مبللة تخفف انتقام الشمس، وأضحك ببلاهة وبؤس. ضحكة مرعبة مفزعة. اهِبْ يا أنا. تفحصت وجهي فتحيّرت، كيف كنت أحلق لحيتي دون أن تخرج عظامي على العلن؟ وتحيّرت أكثر، كيف كنت أقرأ الروايات والكتب في أوضاع وأوقات كتلك؟ أي مزاج هذا؟

وفي الصورة الثالثة، شاهدت لأول مرة في حياتي، حنشاً يرقص العرضة وفي يده بندقية، وفرحان. على ماذا؟ علم ذلك عند ربي وعند خبراء الزواحف.

واليوم أضع على وجهي كريماً مرطباً بعد الحلاقة، وأدهن جسمي بكريم «وايت ماسك» برائحة الفانيليا واللوتس، وأتناول غدائي في الشيراتون وعشائي في كراون بلازا، وبعد غد قد أتناوله في السجن المركزي. وهكذا دواليك ودواليب... وانتو شلونكم؟ وش جاب طاري هالسالفة؟

* الثعبان 

back to top