آمال فراغات بعضها فوق بعض

نشر في 10-07-2009
آخر تحديث 10-07-2009 | 00:00
 محمد الوشيحي وفي التاسعة والربع مساء، دخلت السيارة المظللة بالسواد باحة القصر، ونزل ضيف معاليه، الطبيب النفسي الشهير...

وفي الصالون الداخلي، جلس الطبيب بوجل يجول بنظره في عظمة هذا البناء الفخم؛ هذه الثريا المطلة بشموخ من الأعلى، تلك اللوحات التي رسمها أشهر رسامي أوروبا في عصر النهضة معلقة بترتيب غبي، بالمسطرة والقلم، هناك، في الزاوية، صورة لفتاة في حفل تخرجها من الثانوية العامة، وبجانبها يقف معاليه مبتسماً بزهو القياصرة فرحاً بتخرج ابنته، ومن هناك صالون آخر، لا شيء فيه سوى الفراغ الساذج، فراغ يعلن استعدادَه لردِّ الصوت صدى، كراسيه المصفوفة على شكل دائرة في المنتصف كأنها أطفال يتامى تاهوا في صحراء سيناء فتجمعوا يتدبرون أمرهم... تبدّت ابتسامة خفيفة على ثغر الطبيب وكأنها فرحة اكتشاف تسمية للصالون الفارغ ذاك: "صالون سيناء"، قالها بهمس باسم، ثم تمتم: بالتأكيد، مهندس الديكور المزيف الذي صمم هذا الصالون مات قبل أن يتفرغ لصالون سيناء...

لم يقطع رحلةَ الإمعان الماتعة والهمس الذاتي إلا دخولُ معاليه. نهض الطبيب بتودد يليق بفخامة القصر ومنصب صاحب المعالي... وبعد الترحيب المعلب، قال معاليه بنبرة آمرة تتصنع الذوق: تعال نجلس هناك، وأشار إلى صالون سيناء.

وفي سيناء، أو في صالونها، انكمشت فخامة معاليه وراح كبقية المرضى يشرح حالته النفسية لطبيبه الفلسطيني، لكنه لم يصارحه كما يجب، بل قال له بلكنة غاضبة: عملت بنصيحتك وأوعزت إليهم أن ينوب عني أحد في أي استجواب يُقدّم إلي، فازداد غضب النواب، وراح الناس يتهكمون، كما تقول لنا مصادرنا، فهذا يقول "يا حرام"، والآخر يقول "للوزير المستجوب الحق في استدعاء ولي أمره"، وصرنا لبانة يعلكها المارة وعابرو السبيل... قال معاليه ذلك بصوت مرتفع، ثم أطرق رأسه وراح يهمس كمن يحدث نفسه: ماذا تبقى لم أفعله، صحف وأسسنا، قنوات وصرفنا عليها، نوّاب وفتحنا لهم أبواب المغارة وصاروا يدافعون عنا وينظفون المكان خلفنا، كتّاب وامتلكنا أكثر من خمسين رأساً منهم، كلهم هناك ينتظرون إشارة الوكيل، وكيلي أنا، ليهاجموا زملاءهم الكتاب والنواب المعارضين لي، كل شيء عملته، حتى الصمت "عملته" والتزمته كي لا تكثر أخطائي، فلم أعد أتكلم إلا مع سائقي، وخادمي الخاص، ووكيلي، ما الذي تبقى؟ ومع ذلك وبدون ذلك، لايزال البعض يهددني بالاستجواب، هؤلاء المؤزمون... ما الحل؟ ما الحل؟

أدرك الطبيب بذكائه المعروف عنه وتجاربه التي منحتها إياه أعوامه الستون، أن الأمور تسير في اتجاه الخطر، وأنه إذا صارح معاليه بالحقيقة فسيدفنه في صحراء سيناء التي يجلسان فيها الآن، وسيضيع دمه بين الصالات في هذا القصر الفاره! لكن ضميره وتكوين شخصيته يرفضان الكذب، ثم إنه يحترم قسمه الذي أقسمه بعد التخرج، قَسَم (أبقراط). عندئذٍ ابتلع الطبيب ريقه وقال بنبرة هادئة محذرة: "صحيح معاليك أنني فلسطيني الأصل، لكنني أحمل الجنسية الكندية كما تعلم، والسفارة تعلم عن مهمتي، هذا للفت الانتباه، أما عن علاج من يخشى الاستجواب، فهو أن يتفرغ لسقي الأزهار، وتزيين صالته الفارغة، فهذا من مصلحته ومصلحة الشعب! صدقني معاليك، كل من يجبن عن مواجهة مسؤولياته، هو كتلة من الفراغ تعيش في الفراغ وتستند إلى الفراغ.

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء

back to top