قلنا في الحلقة الماضية أن كينيزي مراد رحّلت بطلتها سلمى إلى باريس. وهناك في باريس كانت تنتظرها وقائع أخرى أشد وأكثر مرارة: الحرب العالمية الثانية، ثم احتلال باريس وأعمال المقاومة الفرنسية. في البداية لن تنتهي سلمى من القراءات واللقاءات بالمثقفين وحضور عروض الموسيقى والمسرح ودور الأزياء الشهيرة وحفلات الكوكتيل الباريسية، كل هذا بمالها الذي سرعان ما سيبدأ بالنفاد، وكل هذا أيضاً تحت بصر حاميها وراعيها (زينيل) ذي العينين الخضراوين، لكنها ستتحول بعد ذلك لتنخرط في نشاطات سرية لدعم المقاومة الفرنسية، وسيتم البحث عنها وهي تنتقل للاختباء من مكان الى آخر. في باريس أيضاً ستتعرف على عشيقها الأميركي، الذي ستدخل معه في علاقة حب عاصف، ليعود الحبيب الى زوجته الأميركية على أمل الطلاق والعودة الى فرنسا لإنقاذها. هنا سيطل القدر برأسه أيضاً فتخفي تلك الزوجة رسائل سلمى المرسلة الى العشيق وكأنها لم تصل. في باريس المثقلة بدخان البارود والجرحى وفي شتاء ممطر، في غرفة مؤجرة وبائسة تُسمع صرخة الجنين، هكذا تُولد ابنتها زهرة، تخرج تلك الصغيرة أمام الخصّي العجوز وهو يرفعها الى صدره بيدين مرتعشتين ثم لن يمر سوى وقت قصير حتى تلفظ سلمى أنفاسها وهي في الأربعين من عمرها، تاركة رسالة مقتضبة للراجا المسلم، بأن له ابنة ستولد في باريس. بين الدموع الخضراء التي كان يذرفها زينيل، حمل جثة الأميرة الهامدة ليدفنها في مقبرة المسلمين في ضواحي باريس، بينما كانت الأمطار تتساقط بغزارة، أما الطفلة فقد تركها تبكي وحيدة في غرفة الخدم البائسة التي كانت تقطن فيها، هكذا أحس زينيل بأنه لم يخلق أبداً في هذا العالم إلا من أجل اميرته. يتم دفن سلمى بين الأمطار المتساقطة الممتزجة بالدموع. بهذه النهاية تكون حياة الأميرة قد ضاعت إلى الأبد. بعد ذلك تبدأ معاناة الطفلة فتنفتح صفحة أخرى لا تقل مأساوية عن الأولى، لكن ما الذي يفعله ذلك الحزين والذي فوق ذلك لا يعرف شيئاً غير اللغة التركية؟ ما الذي سيفعله برضيعة، لونها أقرب الى لون الموت، بين البنايات المهدمة وروائح البارود والنيران ونقالات الجرحى، تحت سماء باريس الملتهبة؟

Ad

لن يجد مفرّاً سوى أن يسلم الرضيعة إلى الصليب الأحمر والسفارة السويسرية، وديعة لا يعرف أحد مصيرها، أما هو فسيختفي في جهة مجهولة من الأرض. الراجا، الأب البيولوجي للطفلة كان غارقاً حتى أذنيه في مشاكل بلاده ومسألة استقلال الهند وموضوعة تقسيم القارة وطموحات محمد علي جناح، بالإضافة الى مؤامرات عمه في القصر الذي حاول الانقلاب عليه مبكراً دون أن ينجح. الحبيب الأميركي يعود إلى فرنسا بعد طلاقه من زوجته بعد فوات الأوان. ماتت سلمى أميرة المنافي وحيدة لم يلق عليها أحدٌ ـ غير زينيل ـ نظرة الوداع الأخيرة. الطفلة بمساعدة الصليب الأحمر والسفارة السويسرية ترحل الى سويسرا متبناة، تلك الطفلة هي نفسها الكاتبة كينيزي مراد هي نفسها التي تربت في سكن الراهبات، هي نفسها المسيحية ـ المسلمة ـ والتي ستحمل اسم زهرة في حدائق بادالبور واسماً مسيحياً آخر. هي نفسها التي ستعيش في باريس في ما بعد، هي نفسها التي ستكتب الرواية بالفرنسية، كما ستصبح أشهر الصحافيات في مجال الريبورتاج، وتلتحق بالمجلة الفرنسية نوفيل أوبسرفاتور، كاختصاصية في شؤون الشرق الأوسط وشبه القارة الهندية، هي أيضاً وأيضاً التي غطت أخبار الثورات الإيرانية والأثيوبية ومشاكل المجاعة في القارة الإفريقية، ثم تغطي أخبار الحرب الأهلية اللبنانية والهندية ـ الباكستانية. لقد اشتهرت في شبابها في الستينيات الباريسية إبان الثورة الطلابية وانخرطت فيها بقوة، حيث درست وتشبعت بأفكار فرويد وسارتر وكبار مفكري تلك المرحلة، هي من غطى التعصب الديني عندما انفجرت ضربة بناء المعبد الهندوسي، مكان مسجد بابور، هي التي بحثت حتى النفس الأخير عن مظهر الكائن الإنساني عبر الهوية الضائعة، هي سليلة التربية الثقافية الغربية هي نفسها التي ستكتب عملها الكبير (حديقة بادالبور) لكن هذه المرة ستكتب قصة حياتها هي، قصة لقائها بأبيها الراجا العجوز الذي لم يعرف ابنته إلا بعد أن بلغت الخامسة والعشرين، فتبدأ مشوارها في البحث عن أوهام الهوية الضائعة.