حديقة الانسان: إلا الباجة!


نشر في 28-08-2009
آخر تحديث 28-08-2009 | 00:01
 أحمد مطر لعلنا، نحن العراقيين، الشعب الوحيد على وجه الأرض الذي يملك الجرأة على تناول «الباجة» في وجبة الإفطار. إذ إن هذه الأكلة المؤلفة من الكوارع والكرشة ولحمة الرأس، ليست قادرة فقط على إصابة شمشون الجبار بالإغماء الأبدي، بل هي قادرة أيضا على تهديم المعبد عليه وعلى أعدائه!

اعلم أن أشقاءنا المصريين مغرمون مثلنا بهذه الأكلة، لكنني لم أتثبت بعد مما إذا كانوا يستسيغون، مثلنا، تناولها على وجه الصبح، وإذا ثبت ذلك فسيتضح لي تماما سبب الوهدة المريعة التي وصلنا اليها نحن أبناء الحضارات الأولى في العالم.

والأمر يهون إذا اقتصر أكلنا لـ»الباجة» على مائدة الإفطار، لكن مشكلتنا هي أننا على مر الأجيال، نتناولها بإصرار وحماس على مائدة «التربية الوطنية» أيضاً! لقد اختلفت التيارات السياسية في تاريخنا على كل شيء، لكنها لم تجرؤ على الاختلاف في مسألة «الباجة».

وانك لتعجب كيف تأتي لكل هذه التيارات، على اختلاف الأزمات والتوجهات، أن تتفق على رفع «راية القراصنة» رمزاً للتحرر والتطلع إلى المستقبل الوضاء! كان السيد محمد سعيد الحبوبي عالما مجتهداً وشاعراً رقيقاً اشتهر بموشحاته التي لم يضارعه في سبكها أحد. لكنه عندما قاد جماعة من رجال الدين لمحاربة الإنكليز في موقعة الشعيبة، في مطلع القرن العشرين، لم يجد ما يتوشح به غير «راية القراصنة»، ولم يجد ما يعلق عليه فتوى الجهاد سوى قدر «الباجة»!

يقال إن آخر ما قاله بيتان من الشعر أنشدهما في تلك الموقعة:

(السيّفُ والخِنجرُ أزهارُنا / أفٍّ على الرّيحانِ والآسِ

شرابُنا مِن دَمِ أعدائنا / وكأسُنا جُمجمةُ الرّاسِ)! / يا للهول!!

إنك قد تتفهم إصرار شاعر غاضب على وضع السيوف والخناجر في المزهرية بدلا من الآس والريّحان. لكنك لا تستطيع أن تفهم كيف لعالم مجتهد أن يتباهى بشرب دماء البشر، وهو يعلم أن شرب دماء بهائم الأنعام محرم! وبأي كأس؟ بالجمجمة!

أنا شخصياً أفضل أن أمنى بهزيمة منكرة على أن أفوز بالنصر عن طريق مثل هذه المائدة.

لا تحسبنّ الأمر متعلقا بتطرف أصولي. كلا. إنها ثقافة «الباجة».. ومن نعم الأقدار علينا أنها موزعة بالعدل والقسطاس على مختلف الاتجاهات.

خذ عندك ما تعنيه تلك الثقافة، في منتصف القرن، بعد أن تحررنا من المستعمر البغيض، وتطلعنا إلى المستقبل الاشتراكي الأممي.

فها هو شاعرنا الراحل عبدالوهاب البياتي، يحلف لنا غير حانث:

(قسما سنجعل من جماجمهِم / مطافئ للسجائر)!

ولأننا نعلم أن الشاعر لم يكن ليؤذي ذبابة، فلابد أن نظن أنه قد دفع كفارة فادحة نظير هذا القسم الكاذب الذي اضطرته إليه تقاليد «الباجة»!

إن أحداً لم يؤاخذ الشاعر على إهماله كل مطافئ المعدن والزجاج، وإصراره على اتخاذ صناعة المطافئ من الجماجم.. ذلك لأن تقاليد الوطنية تتطلب هذا النوع من الصناعة. وإذا كان ثمة مأخذ قد وُجّه إليه فهو أنه، على ما أظن، كان يشجع المناضلين على ممارسة التدخين، وهي عادة ذميمة وغير حضارية كما نعلم!

لا.. ليس الأصولي والأممي بدعاً في هذا المجال، لأن شاعر الأمة الواحدة ذات الرسالة الخالدة قد بشرنا، قبل أن يرينا رأي العين، بأن الوطن الجميل الذي نتطلع إليه متلمظين لا يمكن أن يطلع إلا من قدر «الباجة»:

(وطن تشيده الجماجم والدم / تتهدم الدنيا ولا يتهدم)!

ولأنه غبي وشوفيني وأعمى العين والقلب، فإنه لم يدرك أن كل شيء في الدنيا يمكن أن ينهض ويزدهر حتى في الأدغال، إلا هذا الوطن الذي ضيع مهندسه الأخرق طريق مخازن المواد الإنشائية، ومضى ليشتري الخرسانة والطابوق من «المسلخ»!

* شاعر عراقي

back to top