التنظيم المالي الأوروبي والمنعطف الخطأ
في ظل أزمة الأنظمة المالية التي ألمَّت بالعالم أجمع وما تعكسه من فشل تنظيمي هائل، تعالت الأصوات المطالبة بزيادة وتحسين الإشراف والرقابة. ولقد سُمِعَت هذه النداءات مرة أخرى في قمة مجموعة العشرين في بيتسبرغ، ولقد استجاب الاتحاد الأوروبي للتو، فكشف عن خطة لإنشاء هيئة إشرافية جديدة لعموم أوروبا.في ظل نظام مالي تحكمه العولمة يصبح إيجاد التوازن السليم بين صلاحيات البلدان الأصلية والبلدان المضيفة وبين الإشراف الوطني والدولي، على قدر عظيم من الأهمية. ولنأخذ أوروبا كمثال: إن المؤسسات والأسواق المالية الأوروبية تعبر الحدود الوطنية على نطاق غير مسبوق، ولكن السلطات الوطنية لاتزال تهيمن على العملية التنظيمية. وقد تساعدنا معالجة المشكلة الأوروبية في التوصل إلى حلول للتحدي العالمي.
لقد فشل النموذج الحالي للاتحاد الأوروبي- "جواز السفر الموحد" مع تنظيم البلد الأصلي للمؤسسات المالية- على نطاق محرج. وربما كان اقتصاد منطقة البلطيق الضحية الأكثر مأساوية، ولكن الضرر يمتد عبر أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية وجنوباً إلى منطقة البلقان. وبعد الأثر المدمر الذي خلّفته هذه الأزمة على اقتصاد البلدان المضيفة لفروع البنوك الغربية فلم يعد من الممكن أن نتوقع منها أن تقبل بالوضع الراهن.ولكن من المرجح أن تعجز الهيئات الرقابية الأوروبية الجديدة بشكل واضح عن الوفاء بالمطلوب. ذلك أن المجلس الأوروبي للمجازفة الشاملة لا يتمتع إلا بصلاحيات المراقبة. والهيئات الإشرافية الثلاث المخولة بمراقبة البنوك وأسواق التأمين والأوراق المالية في الاتحاد الأوروبي ستتولى تنسيق عمل الأنظمة الإشرافية الوطنية القائمة، ولن تتمتع بأي صلاحيات تنفيذية، ولقد بدأت الحكومات الوطنية بالفعل في إيجاد السبل لتقويض سلطاتها وقدراتها المالية. ولقد حان الوقت الآن للتفكير في خطة بديلة- ما الذي قد يحدث إذا عجزت هذه الإصلاحات عن تقديم المطلوب لحماية البلدان عند الطرف المتلقي؟ إن البلدان التي تقاوم الآن ظروفها العصيبة- وأبرزها في أوروبا المملكة المتحدة- لابد أن تفهم أن البديل لحل يشمل الاتحاد الأوروبي بالكامل يتخلص في تحقيق زيادة جذرية في تنظيمات البلدان المضيفة. ويزداد هذا ترجيحاً في البلدان التي لا تواجه نفس القيود المفروضة على الحلول الوطنية في بلدان الاتحاد الأوروبي- وأبرزها الصين والهند- والتي فتحت حدودها أخيراً فقط أمام الاستثمار المباشر الأجنبي في القطاع المالي.إن عقوداً من التكامل المالي في أوروبا أصبحت الآن على المحك. وعلى النقيض من أغلب أجزاء العالم الأخرى فإن رأس المال في أوروبا كان يتدفق من البلدان الغنية إلى البلدان الفقيرة- في الأساس من الغرب إلى الشرق والجنوب. وداخل أوروبا الشرقية سعت رؤوس الأموال إلى البلدان التي تتمتع بأسرع معدلات النمو، على غرار النمط المذهل في الأسواق الناشئة.وفي الإجمال نستطيع أن نقول إن التكامل المالي ساهم إلى حد كبير في دعم النمو الاقتصادي في أوروبا الشرقية. كما سجلت الصناعات التي تعتمد بكثافة على التمويل الخارجي نمواً أسرع في البلدان التي تتمتع بتدفقات رأسمال ضخمة مقارنة بغيرها من الدول التي تتدفق عليها رؤوس أموال بمقادير أكثر تواضعاً. ولكن التوسع السريع الذي شهده الائتمان والذي جلبه الوسطاء الماليون الأجانب الذين يستخدمون قنوات متعددة (بما في ذلك الإقراض المباشر، والإقراض عن طريق الأفرع المصرفية، والإقراض عن طريق تأجير الأفرع المصرفية) كان سبباً في تغذية فقاعة الأصول وزيادة التعرض لمخاطر العملات الأجنبية. وفي غياب التنظيمات الفعّالة أصبحت المنطقة بفضل التكامل المالي عُرضة لانكماش فجائي هائل في تدفقات رأس المال.إن الخيارات المطروحة الآن تترك مبدأ الهيئة التنظيمية الوطنية سالماً من الأذى إلى حد كبير. غير أن هذا النموذج فشل بوضوح في حماية البلدان المضيفة من المخاطر الشاملة المتمثلة في فرط تدفق رأس المال. إن منح البلدان المضيفة سلطات متزايدة على الشركات الأم التي تقع خارج نطاق صلاحياتها يفرض أيضاً مشكلة واضحة، حيث إن أغلب البلدان المضيفة ذات موارد محدودة لا تقوى على اختراق الهياكل المعقدة للمجموعات المالية الواسعة الانتشار، هذا فضلاً عن افتقارها إلى الصلاحيات الكافية لفرض التنظيمات والإشراف. إن الاقتراح الذي طرحه الاتحاد الأوروبي بتأسيس "مجمع للجهات الإشرافية"، حتى مع إضافة "هيئة المجازفة الشاملة" الأوروبية، يشكل حلاً جزئياً، وذلك لأنه يساند قيادات الهيئات التنظيمية في البلدان الأصلية ويفشل في معالجة تضارب المصالح المحتمل بين الجهات التنظيمية في البلدان الأصلية والبلدان المضيفة. إن البلدان المضيفة قادرة على معالجة احتياجاتها بتبني حلول جذرية تفرض من جانب واحد عدداً من الضوابط على رأس المال وغير ذلك من التدابير لحماية أسواقها المحلية. ولا شك أن هذا من شأنه أن يعكس اتجاه الجانب الأكبر مما تحقق حتى الآن فيما يتصل بالتكامل المالي.وكبديل، نقترح وضع معايير محددة "للصلاحيات على أساس التأثير". وهذا يعني أنه حيثما تكون الآثار المترتبة على الأنشطة التي تقوم بها أي مؤسسة مالية ضخمة بالقدر الكافي فلابد من السماح للدولة المتأثرة بالاستئثار بالصلاحيات التي تراها ضرورية، بصرف النظر عن مقر المؤسسة.وهذه الصلاحيات القائمة على أساس التأثير تشكل تقليداً قديماً نسبياً في تطبيق الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لقوانين الاحتكار خارج حدودهما. وهذه الصلاحيات تسمح للدول المضيفة بفرض القيود على التوسع الائتماني، بصرف النظر عن الكيفية التي تختار بها أي مؤسسة مالية توجيه رأس المال إلى أسواقها، ومن شأنها أيضاً أن تعزز من حق البلدان المضيفة في المطالبة بالمعلومات من الجهات التنظيمية القائمة في البلد الأصلي.وفي إطار الاتحاد الأوروبي فإن الصلاحيات القائمة على أساس التأثير قد تثير المخاوف بشأن حرية انتقال رأس المال. ومع ذلك فإن معاهدة الاتحاد الأوروبي تعترف باستثناءات السياسة العامة. فضلاً عن ذلك فإن العديد من التوجيهات المعمول بها في الاتحاد الأوروبي تعترف بمصلحة الدولة التي تتم فيها المعاملات والصفقات المالية (مثل عقود وثائق التأمين على الحياة) وذلك من خلال منحها الصلاحيات اللازمة لتنظيم مثل هذه المعاملات.إن أفضل وسيلة لحماية العمليات المصرفية العابرة للحدود والتكامل المالي في أوروبا تتلخص في إنشاء هيئة تنظيمية وإشرافية فعّالة تشمل الاتحاد الأوروبي بالكامل، أو ربما كان الأفضل من ذلك أن نسعى إلى إنشاء مؤسسة عالمية قادرة على مراقبة العلاقات بين البلدان الأصلية والبلدان المضيفة. ولكن من دون إحراز القدر الكافي من التقدم في هذا الاتجاه، فلابد من تزويد البلدان المضيفة بقدر أكبر من الحماية. ونحن نعتقد أن التوجه القائم على حجم التأثير، تبعاً لعتبة متفق عليها، من شأنه أن يقلص من العواقب السلبية المترتبة على المزيد من تدخل البلدان المضيفة في عمليات التنظيم والإشراف.* إيريك بيرغلوف كبير خبراء الاقتصاد لدى البنك الأوروبي للتعمير والتنمية. و كاتارينا بِستور أستاذة القانون في كلية الحقوق بجامعة كولومبيا."بروجيكت سنديكيت" بالاتفاق مع "الجريدة".