مشاعر سوداء وواقعية

نشر في 25-04-2010
آخر تحديث 25-04-2010 | 00:01
 آدم يوسف تطوّح الشاعرة الأميركية فلورنس أنطوني برأسك بعيداً حين تقرأ مجموعتها الشعرية المختارة «سوداء كليلة البارحة»، ترجمة الشاعر سامر أبوهواش، وصادرة عن منشورات الجمل ضمن مشروع «كلمة» للترجمة.

المفارقة أن أصابعك تلامس شعرية الاختلاف، والتشتت وبعثرة الجذور، في هذه النصوص، تماماً كما هي حياة الشاعرة، البيضاء نصف السوداء، ذات الملامح اليابانية. وتبدأ المفارقة حين نتأمل الحياة الواقعية للشاعرة، قبل الانزلاق إلى مخيّلة الشعر. إنها حياة أشبه بكذبة كبيرة. تستمر مع الشاعرة إلى منتصف العشرينيات من العمر، ثم تنطلق بعدها مرحلة الاكتشاف والتمرد الشعري، بحثاً عن الحقيقة. حقيقة انتمائها، ووالدها الأميركي ذي الأصول اليابانية.

لذا فإنها وفي مجموعتها الشعرية هذه تكتب حياتها كما تعيشها هي، أو كما يعيش أي أميركي فقير، تقذفه الرياح، ويتعلق بخلفية كل شاحنة متجهة باتجاه الشمال. ففي كثير من نصوصها المنتقاة من أربعة دواوين مختلفة نجد الشاعرة ترصد الحياة العابرة، واللقاءات العابرة، تماماً كما هو اللقاء الذي جمع أبويها في محطة للبنزين.

«تبقيني منتظرة في شاحنة/ عجلتها الوحيدة الصالحة عالقة في مصرف للمياه/ (...) أسرع أنا الليلة في انتظارك. هذا مازال يثيرك/ لكن نوافذ الشاحنة بلازجاج، /وبارد هذا المقعد الجلدي المقلد (...) شكلي مازال كما كان/ قبل عشرين عاماً/ لكن تعال شغل المحرك/ ستمتلك العزم والإرادة/ سأدفع، وتدفع، ويمزق واحدنا الآخر إلى نصفين»

تمنحنا فلورنس أنطوني أو الشاعرة «آي»، كما يحلو لها، نصف الصورة، وتجعل النصف الآخر معلقاً يداعب المخيّلة، وفي بعض قصائدها التي تقترب من درجة التهتّك، لا يملك القارئ إلا أن يلهث وراءها بحثاً عن اكتمال الصورة أو المشهد، ولكنها بكل براعة، تمنحنا نصف الصورة، نصف المشهد، نصف العناق، ثم تترك ما تبقى. إنها تجيد ببراعة «كسر أفق التوقع»، كما يحلو لنقاد نظرية التلقي قوله. ففي المقطع الشعري السابق وبعد لهاث مع لقاء يجمع حبيبين في شاحنة نقرأ في ختام النص: «وربما نجري بعيداً من هنا/ تاركين الماضي خلفنا/ لا أحد مضطر إلى قراءة الصحف القديمة».

وفي نصوص مليئة بـ «الدمى» وشواهد القبور، والطرق المعبّدة نجد الشاعرة تصوّر سوداوية واقعها، إلا أنها- وبالرغم من كل المرارات التي تحيط بها- قادرة على تحطيم قلب من يهوى. تقول: «أوضّب في حقيبتي قميص نوم أمي الساتان،/ ودمية أختي/ ثم أخرج وأجتاز الحقول إلى الطريق العام/ إنني في الرابعة عشرة/ ريح من لا مكان/ ويمكنني أن أحطم قلبك».

في مجموعتها الشعرية «قسوة» 1973 تبدو الشاعرة أكثر التصاقاً بواقعها، وحياتها البائسة، فتصور، حياة الطفولة، وواقعها الذي لا تنفصل عنه، بكلمات من مثل النار، الاحتراق، الصدى، التابوت، بندقية، إلخ. إلى الحد الذي يجعلها تتوقع الرحيل في أي لحظة، ولكنها في الوقت ذاته لا تستطيع الإقلاع عن الحياة، «لكنه أنا/ إنه أنا/ إنني العادة الوحيدة السيئة/ التي لا أستطيع الإقلاع عنها»

يستخدم سامر أبوهواش حسه الشعري العالي في ترجمة هذه النصوص التي تأتي شديدة الالتصاق بالوقع الأميركي، وبالشاعرة الأكثر صدقاً في سرد حكايات مجتمعها، فهي نصوص شديدة الصراحة والمراوغة، وتستحق القراءة.

back to top