اهلاً بالخصخصة المفترسة
تمشياً مع «التضهول» السائد، ستكون الخصخصة متوحشة تفترس كل من لا يحلل معاشه ويستحوذ على أموال الدولة دون أن يقدم ما يفيدها، فالتسيب السائد هو الظلم والغبن ولكنه واقع على المخلصين والمجتهدين، وبيع البلد هو الحصول على رواتب وكوادر عالية من دون عمل منتج.
علاوة على أن الحكومة بإقرارها جملة الكوادر المالية في الوقت ذاته الذي تستعجل فيه الخصخصة قد عبرت عن حالة انفصام الشخصية التي تعتريها، فقد تكشفت لنا من جانب آخر العلاقة التناغمية ما بين إضرابات الكوادر واعتصامات الخصخصة، والتي تبدو أقرب إلى التنسيق المنظم، فهذا يؤجل إضرابه ليفسح الطريق لاعتصام ذاك، وهي فرصة لفهم وتحليل منطلقات معارضتهم.لنتحدث في المنطق: المطالبون بالكوادر يبررونها بأنهم يؤدون أعمالاً يستحقون عليها تعويضاً يفوق ما يتقاضونه الآن، ومن دونه هم مظلومون ويشعرون بالغبن وعدم التقدير، ولما كان بعض تلك المطالبات بدأ منذ سنوات، فهذا يعني أن أصحابها ظلوا يشعرون بالغبن وعدم التقدير، السؤال هو: لماذا اختار معظمهم البقاء في مراكزهم طوال تلك السنين ولم يبحثوا عن فرص أخرى تحقق لهم الشعور بالرضا والتقدير؟ فمن يؤدِ عملاً لا يتناسب مع ما يتقاضاه فليبحث عن عمل آخر مادام قادراً، ومن يسكن في جيرة سيئة يبحث عن سكن آخر مادام قادراً. ولست هنا أنتقص من الإضراب والاعتصام كخيارين للضغط والتعبير عن عدم الرضا، خصوصاً لأصحاب المطالبات الصادقة، ولكن ما لا أفهمه هو أن تستمر المطالبات لسنوات، ويستمر معها الشعور بالغبن وعدم التقدير، ولا يبحث أصحابها عن فرص عمل أخرى «ما داموا قادرين»، لكن العبارة الأخيرة هي مربط الفرس.ما يحدد القدرة هو السمعة العملية والإنتاجية السابقة، ولأن الجهات الحكومية متخمة بالبطالة المقنعة والموظفين القليلي الإنتاج، فهم فاقدون لتلك القدرة وليس باستطاعتهم إيجاد فرص أخرى خصوصاً في القطاع الخاص، بالإضافة إلى عدم استعدادهم للتخلي عما يوفره القطاع العام من مزايا رسمية كساعات العمل القليلة والرواتب والبدلات والمكافآت غير المرتبطة بالإنتاجية، ومزايا غير رسمية كالتسيب والتمارض والقدرة على الحصول على مزيد من الامتيازات غير المرتبطة بالإنتاجية بالصراخ والواسطة، لذلك فهم يتشبثون بمراكزهم رغم الظلم المزعوم كل هذه السنين، إذ يعون أن تلك المزايا ستعود إلى نصابها الصحيح وتُربط بالإنتاجية إذا تم تخصيص قطاعاتهم، ويعون عدم قدرتهم على التكيف مع طبيعة العمل في القطاع الخاص، لذلك لا عجب في أن تكون جماعة إضرابات الكوادر هي أشرس من يعارض الخصخصة.ولا أقصد التعميم هنا، فهناك بعض المطالب الصادقة والمستحقة، وهناك من اختاروا العمل في القطاع العام للتسهيلات التي يوفرها ولكنهم قانعون بأن ما يتقاضونه عادل مقابل العمل الذي يؤدونه، فلست أقصد هؤلاء، أما غيرهم، فلهم البشارة: نعم، وتمشياً مع «التضهول» السائد، ستكون الخصخصة متوحشة تفترس كل من لا يحلل معاشه ويستحوذ على أموال الدولة دون أن يقدم ما يفيدها، فالتسيب السائد هو الظلم والغبن ولكنه واقع على المخلصين والمجتهدين، وبيع البلد هو الحصول على رواتب وكوادر عالية من دون عمل منتج، وإن كانت الخصخصة بوحشيتها ستضع حداً لهذا الوضع، فأهلاً بها.