جاء اختيار الرئيس الأميركي باراك أوباما للسعودية ومصر تمهيداً لإلقاء خطابه التأسيسي الموجّه للعرب والمسلمين مؤشراً على «عودة الوعي» في السياسة الأميركية، فمن يريد التعامل مع العالم العربي لابد أن يدخل من مداخله الطبيعية التي هي مصر والسعودية وسورية. (جاءت زيارة جورج ميتشل لدمشق والتقائه مع الرئيس بشار الأسد، وحديث الرئيس السوري عن التطلع لبدء علاقة مع واشنطن قوامها الاحترام والمصالح المتبادلة: دليلاً آخر على هذا «الوعي العائد» لدى الولايات المتحدة الذي نرجو أن يترسخ، ونعمل من جانبنا كعرب على تعزيزه).

Ad

وبالنسبة لقرار الرئيس الأميركي الجديد أوباما توجيه خطابه من مصر بالذات عودة أميركية للانطلاق من «الثوابت «العربية لا تجاوزها. فمن يريد إحلال السلام في الشرق الأوسط فعليه التحدث للعرب الذين تحملوا أعباء القضية الفلسطينية لعقود من الزمن ودفعوا ثمناً باهظاً من نهضتهم وتنميتهم ومصيرهم، فهم أصحاب «القضية» وأهلها الشرعيون. وبعض أراضيهم لاتزال محتلة.

وكان اختيار أوباما لجامعة القاهرة منبراً لتوجيه خطابه، إعادة اعتبار دولي لأقدم جامعة عربية حديثة (أنشئت عام 1908) وخرّجت آلاف العقول العربية التي أسهمت في نهضة أوطانها قبل أن يجرفها- مع غيرها من الجامعات المصرية والعربية- تيار الشعبوية العددية الذي طالب به أصلاً طه حسين وطبقه عبدالناصر، واتضح أنه «شر» بالنسبة للمستوى العلمي لأي جامعة، لكنه «شر لابد منه»! وإلا فما العمل مع الزيادة السكانية التي لم يحلها أي نظام عربي؟! والأهم... هو قرار أوباما اللاحق منح أميركا للشباب العربي المؤهل منحاً في الجامعات الأميركية (وإرسال أميركيين للتعرف إلى الواقع العربي والإسلامي على الطبيعة). وكان من أهم أضرار أحداث 11 سبتمبر 2001 بالنسبة للعرب تعذر التحاقهم بالجامعات الأميركية ولو على حسابهم، أي انقطاعهم عن جديد البحث العلمي في العالم!

ومع إدراكنا أن خطاب أوباما من نوع المحاضرات، فإن ذلك لا يقلل من أهميته، وعلينا ألا نبالغ بشأنه في الوقت ذاته، فلم يحدث أن تحدث رئيس أميركي عن معاناة الشعب الفلسطيني بهذه اللغة، وثمة مؤشرات أولى على أنه يعني ما يقول، وعلينا أن ننتظر لنرى إن كان الرئيس الفرد بإمكانه توجيه «المؤسسات» إلى وجهة قناعاته، فقد ينجح وقد لا ينجح، ولكن على العرب عدم إعطاء مبررات لإخفاقه- وهذا ما تنتظره حكومة نتنياهو وليبرمان- وأتفق مع مصطفى الفقي (الحياة، 9/6/2009م) أنه بعد هذا الموقف الجديد من الرئيس الأميركي فليس من داع أو فائدة لبقاء معسكر عربي «قابل» ومعسكر عربي آخر «ممانع»، (وكنا قد كررنا مراراً قبل خطابه أن ثمة خيولاً في المنطقة تركض جميعها في مسار واحد، والفارق هو لونها فحسب!).

واللافت أيضاً تخليه عن فرض التصور الأميركي للديمقراطية على الشعوب الأخرى. ونعتقد أن ذلك أمر إيجابي فالديمقراطية لا تأتي بإرادة خارجية- كما أشرنا مراراً- وعلى الساعين لمزيد من الديمقراطية في العالم العربي أن يعتمدوا على أنفسهم قبل كل شيء.

أما إعلانه بالتزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل وتأكيده حدوث المحرقة حسب الرواية الإسرائيلية، فثمة حاجة في ضوء «الانفلاتات الإسرائيلية» إلى «التزام» أميركي مقابل، أي بصراحة إلى ضبط أميركي للسلوك الإسرائيلي، لا الركض عميانياً وراءه. وبالنسبة للمحرقة فمن الشجاعة الأدبية اعتراف العرب بها، مع التأكيد- كما نبه بحق جهاد الخازن- إلى أن العرب غير مسؤولين عنها. ولكن من «المسـؤول» أمام الضمير العالمي عن «المذابـح» و«المحارق» التي تعرّض لها العرب من «دير ياسين» إلى «بحر البقر» إلى محرقة غزة الأخيرة (نهاية عام 2008)؟ وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى أن الرأي العام العالمي قد بدأ التعاطف مع الفلسطينيين وقضيتهم- وآخر «اعتراف» بذلك جاء من المتطرف ليبرمان وزير خارجية إسرائيل باعتبار ذلك أكبر «مشكلة» تواجهها- والمأمول ألا «يتطوع» طرف فلسطيني أو آخر بإحراق هذا «الرصيد» العالمي البادئ في التراكم لمصلحة الفلسطينيين.

ويأتي خطاب نتنياهو في جامعة بارايلان لاستفزاز مثل هذا الانفعال العربي والفلسطيني، خصوصا أن البيت الأبيض أصدر بياناً رحب فيه بالخطاب- وهي مسألة محيرة- في ضوء التوقعات بعد خطاب أوباما في جامعة القاهرة. والأرجح أن خطاب نتنياهو موقف تكتيكي وحملة علاقات عامة لكسب الرأي العام العالمي والأميركي، خصوصا اليهودي المعتدل داخل إسرائيل وفي الولايات المتحدة بالذات.

واللافت قول صائب عريقات بعد إلقاء نتنياهو لخطابه، وعريقات من الفريق الفلسطيني الساعي للسلام، وكبير المفاوضين كما نعلم: «سيتعين على نتنياهو الانتظار ألف سنة قبل أن يجد فلسطينياً واحداً مستعداً لقبول ما جاء في كلمته...».

والجدير بالملاحظة أنه حتى روسيا لم تستطع الترحيب بما قاله نتنياهو لأنه لن يؤدي إلى سلام.

وفيما يتعلق بانحسار التطرف في المنطقة، تبقى الصورتان قائمتين: التطرف والاعتدال، رغم نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية. فما جرى في إيران، رغم أنه يحمل بعض المؤشرات على أن الإصلاحيين، هذه المرة، أكثر إلحاحاً على موقفهم من السابق، فإن النتيجة الرسمية المعلنة تعطي انطباعاً آخر. ولكن علينا هنا أيضاً عدم المبالغة. فأولوية القرار السياسي في إيران للمرشد الأعلى، وليس لرئيس الجمهورية الذي يتولى صلاحيات «تنفيذية» فحسب. وسواء هدأت الأحوال في طهران أم لم تهدأ- بانتظار مصادقة مجلس صيانة الدستور على النتائج الرسمية– فإن «الملف الإصلاحي» الإيراني سيبقى قابلاً للتفاعل مستقبلاً... أكثر من ذي قبل... وكما قالت المندوبة الأميركية في الأمم المتحدة، فإن الموقف الأميركي من إيران لا يتحدد كلياً بنتائج الانتخابات الرئاسية فيها.

واللافت للنظر أن الجنوح العام للاعتدال والتسوية في المنطقة، لا تندرج ضمنه الحالتان الشرق أوسطيتان، وهما «الحالة الإسرائيلية» و«الحالة الإيرانية»، حيث من المنتظر أن تحاول الإدارة الأميركية الجديدة معالجتهما والوصول إلى تسوية «مقبولة» معهما. والمعروف أن المتشددين هم الأقدر على اجتراح أي تسوية، بينما «المعتدلون» أضعف موقفاً في قبولها وتنفيذها... فهل ينطبق هذا الاعتبار على الحالتين المذكورتين؟ أم أن تتابع الأحداث يقرب الصدام الذي لا يريده أحد بينهما؟

لقد أشرنا في مقالتنا السابقة (بتاريخ 4/6/2009م) أنه من السابق لأوانه التسليم بتراجع التطرف. وإذا ما حدث الصدام غير المأمول، فإن المنطقة برمتها ستواجه ظروفاً صعبة وهذا ما ينبغي أن تعمل الدبلوماسية «الذكية»– حسب تعبير وزيرة الخارجية الأميركية– على ضرورة تفاديه بأي ثمن، فالصراعات المسلحة لم تحل أي مشكلة في العالم، وأنت تعرف كيف تبدأ حرباً، لكنك لا تدري كيف تنتهي.

ورغم أن نتائج الانتخابات النيابية اللبنانية كانت موضع ترحيب من البعض، وقبول من الجميع. فإن جذورها العميقة لا توحي بالاطمئنان نظراً للتركيبة والاعتبارات المذهبية والطائفية التي انطلقت منها. وظروف لبنان مفهومة ومقدرة، ولكن لبنان بحكم مكانته وتاريخه قادر على «العدوى» في المنطقة العربية. وإذا ما انتقلت هذه الحالة لدول عربية أخرى- ولا ينبغي إغفال مؤشراتها السلبية السارية– كعدوى إنفلونزا الخنازير، فإن الجميع سيكتوي بنارها، ولن يكون ثمة جبل يعصم أحداً من الماء!

وفي مجال رصد مظاهر التطرف والاعتدال في العالم، فعلى المعنيين بهذه الشؤون، أن «يقلقوا» بشأن «المزاج الأوروبي» الجانح تدريجاً نحو اليمين والتطرف، كما كشفت عنه انتخابات البرلمان الأوروبي. إن تحولاً جذرياً لم يقع بعد، ومازال مسؤول السياسة الخارجية الأوروبية يجول المنطقة ويدعو للسلام، فأوروبا المتحدة ينظر إليها باعتبارها «صخرة الاعتدال» في العالم، ولكن بعض الأوروبيين في حياتهم اليومية لا يريدون أن يدفعوا ثمن ماضيهم الإمبراطوري «الاستعماري» عندما كان المستوطنون الأوروبيون «يتشمسون» في إفريقيا والهند وغيرهما، وهم يرون أن قارتهم «البيضاء» تكتسب تدريجياً لوناً داكناً من الهجرة المسماة «غير شرعية»... فهل كان الوجود الاستعماري شرعياً؟!!

... والتاريخ من يكتبه: النمور... أم قتلتُها؟!

* مفكر من البحرين

 

 

كتاب الجريدة يردون على تعليقات القراء